د. فاطمة النشاش - في عالم يتحدد شكله ومساره بمدى تفاعلنا مع التكنولوجيا، لا يمكننا أن نتجاهل التأثير الهائل الذي تحمله التقنيات الحديثة على مجالات حياتنا المختلفة، ومن أهمها مجال التعليم، إذ يتطلب منّا إعادةَ النظر في أهدافه ومناهجه وطرقه، مع دخولنا إلى مرحلةٍ جديدةٍ من الابتكار والتطور، تتخطى حدود المألوف وتمهد الطريق لتجارب تَعلم استثنائية، ولكن، هل نحن مستعدون لمواجهة التحديات والفرص التي تقدمها هذه التقنيات للتعليم؟ وهل نحن قادرون على استغلالها بشكلٍ أمثل لتحقيق أهدافنا التعليمية وتلبية احتياجاتنا التعلمية؟ وما هي الآثار الإيجابية والسلبية التي قد تنتج عن استخدامها على المتعلمين والمعلمين والمجتمع؟
من بين التقنيّات الحديثة التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على التعليم، يبرز الذكاء الاصطناعي التوليدي (GAI)، كواحدةٍ من أكثر التقنيات إثارة للجدل والحيرة، وهو مجالٌ من مجالات الذكاء الاصطناعي (AI)، الذي يسعى إلى تحقيق حلمٍ قديمٍ للبشرية، وهو خلق آلاتٍ تفوق البشر في الذكاء والإبداع، هذه الآلات لا تقتصر على تنفيذ الأوامر والمهام التي يُبرمجها لها البشر، بل تستطيع أن تتعلم وتتطور وتتفاعل مع البيئة من تلقاء نفسها، وتولد محتوى ومنتجات وحلول جديدة ومبتكرة، دون الحاجة إلى تدخل أو إرشاد بشري، ولتحقيق هذا الهدف، يستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي مجموعةً من الأساليب والتقنيات المتطورة، مثل الخوارزميات والشبكات العصبية والتعلم العميق وغيرها، التي تمكنه من محاكاة وتقليد وتجاوز قدرات العقل البشري.
يُمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يقدم فوائد عديدة في مجال التعليم، إذ يُسهم في تحسين جودة وكفاءة وفعالية عملية التعليم والتعلم، ويُقدم فرصَ تعلم جديدة ومتنوعة ومتاحة للجميع، من خلال قدرته على تحليل بياناتِ الطلبة ومستوياتهم واهتماماتهم وطرق تعلمهم، وبناءً على ذلك يصمم مناهج دراسية وتقييمات مخصصة لكل طالب بشكل فردي، تتناسب مع احتياجاته وقدراته وتحفزه على التعلمِ بشكل أفضل، ويمكن أن تشمل الاستخدامات المحتملة له أيضا إنشاء محتوى تعليمي مخصص، دعم تعلم الطلبة على نحو فردي، تحسين تقييم الأداء، تخصيص خطط الدراسة، دعم التعلم عن بُعد، وتوفير مساعدة للطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة.
علاوةً على ذلك، يٌمكنه تَشكيل مجموعات تعلم متجانسة ومتنافسة بين الطلبة، وتوفير منصات وأدوات للتواصل والتفاعل والتبادل بينهم، وتشجيعهم على المُشاركة والتعلم من بعضهم البعض، وتقديم التغذية الراجعة والتقويم المتبادل. ويمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يقوم بمساعدة المعلم في تنفيذ وإدارة عملية التعليم، وتقديم تقارير وإحصائيات عن أداء الطلبةِ ومشاكلهم وحلولها، وتوفير موارد ومراجع ودورات تدريبية لتحديث وتطوير معلوماته ومهاراته وأساليبه التعليمية.
ومع ذلك، على الرغم من الفوائد العديدة التي يمكن أن يقدمها الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم، إلا أنه يحمل أيضًا مخاطرَ أخلاقية واجتماعية ونفسية قد تظهر عند استخدامه بشكلٍ غير مسؤول، إذ قد يؤدي الاعتماد الزائد على هذه التقنية في إنشاء المحتوى التعليمي إلى خلق شكوك حول جودة وموثوقية هذا المحتوى، وفقدان الثقة في مصادره ومراجعه ومؤلفيه، كما قد يقلل من قيمة الجهود البشرية في إنتاج المعرفة ونشرها، ويقلل أيضا من الفرص التي يُمكن أن يتاح فيها للطلبةِ اكتشافُ وتطوير هويّاتهم وشخصيّاتهم ومواهبهم واهتماماتهم، كما يمكن أن يُضعف القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية التي تحكم علاقات التعاون والتواصل بين الطلبة، مثل الصدق والعدالة والمسؤولية والاحترام والتعاطف، ويُشجع على الغش والتَزوير والتلاعب والاستغلال والتنمر، بالإضافة إلى تقليل أهمية وقيمة دور المعلم في عملية التعليم، وتهميش مساهمته وتأثيره وإبداعه، محولًا إياه إلى مجرد متابع ومنفذ لتعليمات برامج ذكية.
ولذلك، يجب علينا أن نكون حذرين ومسؤولين عند استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم، وأن نراعي القواعد والمعايير الأخلاقية والقانونية والتربوية التي تضمن حقوقنا وواجباتنا كمتعلمين ومعلمين، وأن نحافظ على التوازن بين الاستفادة من هذه التقنية والاحتفاظ بالعنصر البشري في عملية التعليم والتعلم. باختصار، يُشكل الذكاء الاصطناعي التوليدي جسرًا بين التكنولوجيا والتعليم، يَربط بين الحاضر والمستقبل بخيوطٍ من الإبداع والتحديات الأخلاقية، ويَحمل معه وعدًا لتشكيلِ مستقبل التعليم بشكل مذهل ومتطور.