د. فاطمة النشاش - في عالم يتغير بسرعة في كل جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، تتأثر حياة البشر وعلاقاتهم ومستقبلهم بشكل ملحوظ. ومن بينهم، فئة خاصة ومهمة تتعرض لتأثيرات هذه التغيرات بشكل أكبر، وهي الآباء. فدور الأب لا يبقى ثابتًا أو محددًا، بل يتبدلُ ويتطور مع تَبدل وتَطور المجتمعات، ويتأثر دوره بالقيمِ والاتجاهاتِ الاجتماعية المتغيرة، ويَضطر إلى التكيفِ مع هذه التغيرات ليقوم بمسؤولياته بشكلٍ فاعل، فدورُ الأب في المجتمع الحديث ليسَ بالأمر السهل أو البسيط، بل هو دورٌ متعددُ الأوجه، وأصبحَ اليوم أكثر تنوعًا وتحديًا وتعاونًا مع دورِ الأم.
في رحلتهِ المستمرة، يواجهُ الأبُ تحدياتٍ متعددة، تشمل تحقيقَ توازن صعبٍ بين العمل والأسرة، وفَهم التأثيراتِ المتنامية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات على العلاقاتِ الأسرية، إذ يجب عليه أن يكون قائدًا حكيمًا لتحدياتِ التربية في عصر مليءٍ بالتغيراتِ الثقافية، ويتوجب عليه الجمعُ بين تقليصِ الفجوة الرقمية وتوجيه أبنائه نحو التطور الإيجابي.
في الماضي، كانَ دورُ الأب محصورًا في توفير الدعمِ المادي والحمايةِ للأسرة، وكان يُعد القدوة والسلطةَ والمسؤول في المنزل، أما الأم، فكانت تتولى رعايةَ الأطفال والأعمال المنزلية، وكانت تُعد المصدر الرئيسي للحنان والتربية والتعليم، وكان هناك تمييزٌ واضحٌ بين الأدوار، وكانت العلاقةُ بين الأب والأبناء تقوم على الاحترام والطاعة و"الخوف". في العصر الحديث، تَغيّرت هذه الصورةُ النمطية لدورِ الأب بسبب التطوراتِ المجتمعية والثقافية، فأصبحَ الآباءُ يشاركون الأمهات في رعايةِ الأطفال والأعمال المنزلية، ويُقدمون لهم الحب والدعم العاطفي والتوجيه النفسي والاجتماعي، وصاروا يلعبون دورًا مهمًا في تشكيلِ شخصية الأبناء ومستوى ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم وطموحاتهم، وباتت العلاقةُ بين الأب والأبناء تَقوم على الصداقةِ والتفاهمِ والحوارِ والاحترامِ المتبادل.
ولم يكن هذا التغيير سهلًا، فهناك تحدياتٍ وصعوباتٍ تواجه الآباءَ في المجتمع المعاصر، فمن جهة، يواجه الآباءُ ضغوطًا اقتصاديةً ومهنيةً واجتماعيةً تؤثر على قدرتهم على توفيرِ الوقت والجهد والمال للأسرة، ومن جهة أخرى، يواجه الآباء تحدياتٍ ثقافيةٍ وتربويةٍ تتعلق بالتكيف مع التغيرات في المجتمع والتعامل مع التنوع والاختلاف والصراعِ بين القيم والمعايير، ولذلك، يحتاجُ الآباء إلى تطوير مهاراتٍ وصفاتٍ جديدة تمكنهم من أداء دورهم بشكل فعّال ومتوازن.
مع التطورات الاجتماعية والثقافية، تبرز أهميةُ تعزيزِ دور الأب في التربية، فيمكن للأب أن يكون نموذجًا إيجابيًا يُلهِم به أولاده، ويساعدهم على اتخاذ القرارات الصحيحة، ويصبحَ شريكًا فعّالًا في بناءِ الهوية الوطنية للأبناء، وينقلُ لهم القيم والروح الوطنية التي تُعزز الولاء والانتماء. ومع ذلك، يواجه البعضُ صعوباتٍ في فهمِ دور الأب وتقديره، يظهر هذا جليًا في نقصِ التوجيه والدعم الذي يحتاجهُ الأب لتطويرِ قدراته في التربية، ويتطلب الأمر توعيةَ المجتمع بأهمية الدورِ الأبوي وتحفيزهِ على المشاركةِ الفعالة في تربية الأبناء.
في رحلتهِ في زمن التحولات، يَبني الأبُ جسورًا من الحكمةِ والتفهم مع أفراد أسرته، إنه يشكل نموذجًا حيًا يعكسُ مرونة التفكير والقدرة على التكيف، يظلُ الأب ركيزةً حقيقيةً في بناءِ مجتمعٍ قائم على القيم والتطور، ورغم تحديات الزمان، يبقى محورًا حوله يتناغم الأبناء وتتشكل هويتهم، إنها رحلةٌ تستحق الاحترام، وفي زمن التحولات، يبقى الأبُ صانع الفرق في قلبِ الأسرة وروحِ المجتمع.