كل عمليات مسح الذاكرة الوطنية بخصوص فلسطين، لدى الاجيال منذ اكثر من ثلاثين سنة، انهارت فجأة، واسرائيل لم تدرك لفرط غرورها انها ايقظت فلسطين في ضمائر الغائبين.
هذه احدى نتائج الحرب المهمة جدا، واذا كان الكلام يبدو عاطفيا بنظر البعض الا انه ليس عاطفيا بالمعنى الحرفي، لأننا كنا امام الملايين من العرب والمسلمين الذين نسوا فلسطين، وتناسوا وجود الاحتلال، وانشغلوا بقضايا ثانية، بل اصبحنا امام اجيال مفصولة عن امتها وعن قضاياها لصالح تيارات تغريبية في التعليم والثقافة والاعلام، وكانت نتائج عمليات غسيل العقل والوجدان تجري على قدم وساق، وساهمت وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي بهذه المهمة من خلال شطب رموز مهمة في حياتنا، واحلال رموز تافهة تحت مسميات مختلفة.
سيأتي من يقول وما نفع كل هذه الصحوة اذا كانت كل هذه الاجيال لا تفعل شيئا مباشرا لفلسطين، وهي اما بعيدة او مغيبة او غير قادرة على الفعل لاعتبارات كثيرة، والاجابة هنا سهلة، لان كل عمليات التخريب العقلية المتواصلة التي انتجت اجيالا نراها في العالم العربي ونتأسف على حالها واحوالها، انقلبت اليوم على اصحابها، وليس ادل على ذلك من ارتفاع منسوب العودة الى الدين مثلا، او منسوب التوقف الفعلي عن ممارسات قديمة كنا ندينها يوميا، والتوقف ايضا عن حالة التبرؤ الضمني او خفض الاهتمام بقضايا تتعلق بكل المنطقة.
لا يكفي هنا ان نشير الى المسيرات والمظاهرات التي خرجت في اغلب عواصم العالم وضمت جنسيات عربية واسلامية، واجنبية ايضا، لكننا نتحدث عن خزان الدم في هذه المنطقة الذي تعرض لحرب خطيرة خلال العقود الماضية من اجل حصره بقضاياه الذاتية الصغيرة، من خلال اعادة تشكيل شخصية الاجيال الجديدة واشغالها اما بلقمة الخبز، او بمفاسدها الصغيرة والكبيرة، او حتى اعتبار احتلال فلسطين قضية ميؤوس منها لا يمكن التعامل معها، وفوق كل هذا مسح الوجدان العربي والاسلامي وفصل اجيال كثيرة عن عناوينها الاساس.
هذا يعني ان الردة الناعمة دون قصد، بما في ذلك التعامي عن عداوة اسرائيل، ردة انهارت فجأة وعلى الاغلب فإن المراقبين لاتجاهات الجمهور في الدول العربية والاسلامية يرصدون حالة الصحوة المستجدة، وربما يخططون اليوم لمرحلة ما بعد الحرب، من اجل التسبب بردة جديدة، او اعادة الاجيال الى قواعدها المزورة البديلة التي تم تصميمها خلال عقود.
كل اجهزة المخابرات الدولية ترصد اتجاهات الرأي العام في المنطقة، وربما تتورط في تحليلات خاطئة حول عودة التطرف الى مستوياته، وربما اشتداده، برغم انها تعرف الحقيقة وتحرفها، والحقيقة تقول ان رد فعل الانسان العربي مثلا طبيعي اليوم، فيما حالة غيابه السابقة لم تكن طبيعية وتم انتاجها في المختبرات المعتمة، فوق الحياة البائسة التي تم صنعها زورا للانسان العربي في دول تعد غالبيتها ثرية اصلا، لكنها منهوبة ومسروقة في سياقات التجويع والاذلال وغياب حقوق الانسان وغياب التنمية، وربما الاستهزاء بكل مطالبه المشروعة.
جرائم اسرائيل ايقظت الملايين مجددا، وأولئك غير القادرين على اجتراح رد فعل عملي لصالح فلسطين، سيأتي اليوم الذي يحولون فيه كل صحوتهم الجديدة الى واقع مؤثر جدا.
نعم سيخططون لمرحلة ما بعد الحرب، من اجل اطفاء هذا النور الذي تجدد من حيث لا يحتسبون، وهذا يعني ان الحرب الاخطر ستكون على اجيال كاملة في كل المنطقة.