غابت؛ كل فنون التنظير الإداري المتعلقة بتحويل التهديدات إلى فرص، ولن نتساءل عمن غيبها عن الحوار العام، وعن منح الجمهور المقهور فرصة أخرى، للنظر إلى حرب الإبادة التي تديرها أمريكا ضد العالم وليس ضد الفلسطينيين وحدهم، لكننا سنقول ما لا يقوله المنظرون، وما يمنعه العملاء والدجالون والممثلون والمنافقون والمنبطحون، وسائر الجمهور المنهزم سلفا، الراضخ للإملاءات الاستعمارية التي لم تتوقف يوما، ولم تنته.
كل منا مقتنع تماما بأنه، حتى وإن وقف على الحياد فهو ليس محايدا في نظر وتفكير وتخطيط هؤلاء المجرمين، فكل المنطقة تحت سيطرتهم، ومستباحة الحدود والفضاء لهم، متغلغلون في مرافق الحياة كلها، في كل العالم، سوى المناطق التي ترفضهم و»تقاومهم»، وتقف على النقيض تماما من استراتيجياتهم وحروبهم المتنوعة، وبناء على هذه القناعة فلا أحد بمنأى عن أن يعيش التجربة نفسها يوما ضد الأعداء أنفسهم، وباليد المجرمة المأجورة ذاتها، وسوف تغيب كل الحقوق والعدالات كما تغيب الآن عن الفلسطينيين، وعن أية جهة ترفض ما يجري في فلسطين، حتى الشعوب الأوروبية الحرة، وقواها الشعبية الحية، لن تفعل شيئا بعد أن صمدت «وحيدة» اليوم، ترفض ما يجري من جريمة، وتطالب بتحرير فلسطين، وإعادة حقوق شعبها، ومحاكمة كل مجرمي الحروب وداعميهم..
مجرد دوام وبقاء الشعب الفلسطيني على قيد الحياة، في غزة أعني، فهذا يعني أن حرب الإبادة فشلت، وأن الشعب الرافض للاحتلال انتصر، وصمد رافضا للاحتلال والاستعباد ولمصادرة حقوقه الطبيعية بالحياة على ترابه الوطني، يمارس معتقداته وقناعاته، ويسعى لتحرير أرضه من الغزاة المجرمين، ففي الوقت الذي يجهد العدو المجرم على تثبيت مفهوم أن ثمة جهة ارهابية في غزة وسائر أنحاء فلسطين وفي جوارها، تتوسع وتتعزز فكرة الحرية والكرامة ومقاومة المحتل، رغم القتل والتهجير والتدمير والنزوح، ورغم فظاعة الجرائم والمواقف الدولية الداعمة لها.. المقاومة تكبر ولا تصغر، وفكرة ومقولة «الردع والتخويف» تتقهقر، بسبب صمود أهل فلسطين في غزة وفي كل مكان..
منذ بداية هذه الحرب المجرمة؛ توقعنا موقفا بل مواقف عربية وعالمية رسمية، لكننا كنا نتوقع اشتباكا حقيقيا مع ما يسمى بمحور المقاومة، وكنا نخشى انزلاق الشعوب المحيطة بفلسطين في أتون مواجهة غير مضمونة النتائج، تصب في النهاية في مصلحة العدو الجاهز دوما للتوسع والاستيطان والتدمير والتهجير، وشاهدنا تواضع ردود الأفعال من الجهات المستهدفة من هذه الحرب بالدرجة الأولى، ثم تحولت هذه المواقف المتواضعة إلى أدلة على اتهامات ذلك المحور بالتقصير، الأمر الذي دفع بعضها للتمترس خلف مواقفه البائسة، يدافع عنها، ويلقي باللائمة على الدول والحكومات الأخرى، مع تمام علمه بأنها ليست طرفا في محور المقاومة المعروف، بل على العكس تماما كانت مواقف دول عربية كالأردن وقطر والجزائر أكثر صلابة ووضوحا وأخلاقا وصدقا، وصمدت في وجه التهديدات الأمريكية وغيرها، وهذا لا يكفي بالطبع لإيقاف حرب الإبادة، ويفسح مجالا لتفلت وتراجع آخرين كثر عن القيام بدورهم، ولا أريد ذكر أسماء فهي معروفة والجميع يفهم مواقفها المتواطئة.
كل مجريات الحدث الإجرامي، تؤكد أن الحالة بقدر بشاعتها إلا أنها تشكل فرصة للخلاص من هذا العدو المفلس، الذي انكشفت بشاعته وضعف موقفه، ودفعته إلى مزيد من الجريمة والسعي لإرهاب العالم وحماية الصهيونية وتبرير جرائمها، وفق شرعة غريبة لا تمت لواقع البشر وقوانينهم وأخلاقياتهم بأية صلة، فهي محض جريمة وشر ورغبة في السيطرة على الشعوب ومقدراتها، بل وإذلالها وقتلها وتعميم الإرهاب، ليتصدى لهم شعب أعزل من كل شيء سوى الإيمان بحقه، وباستعداده للموت بكل الأشكال دون أن يترك أرضه ويسلمها للعدو المجرم..
دروس الصمود الفلسطيني تستقر في كل عقل وضمير، وتبني أخطر ثقافة يخشاها هذا العدو، وكل التجارب البشرية على هذا الكوكب تثبت مدى صلابة وقوة موقف أصحاب الحق والأرض، الضعفاء الذين حاول أعداؤهم قتلهم بكل السبل، وفشلوا، وتحررت الشعوب الضعيفة من قبضتهم، واستعادت كل حقوقها..
مثل هذا الظلم والإجرام، مهما اشتد وزاد، إلا أنه يتلاشى ويتقهقر في فرصة، هي «لحظة» صدق واحدة، وهي دوما لا تخضع لساعات وأنظمة توقيت السياسة والجيوش المجرمة..
وسوف تأتي هذه اللحظة.