إن الإدارة الأمريكية تجردت من كافة المعايير والأخلاق الإنسانية والقيم الأساسية لحقوق الإنسان، لذلك نجد أن واشنطن تتحدث بلسان المحتل الصهيوني المجرم وتشكك بكل وقاحة في صحة ما يحدث في القطاع من إبادة جماعية وتجويع لأهل القطاع وإعتداءات جنسية وإنتهاج سياسة الأرض المحروقة بقصد الضغط على إبطال المقاومة.
يستمر الإحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023 في عدوانه الهمجي ومجازره بحق البشر والشجر والحجر في قطاع غزة، التي خلّفت أكثر من 30 ألفاً ما بين شهيدٍ ومفقود حتى تاريخه، في مشهد دامٍ لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب والكوارث البشرية، يندى له جبين الإنسانية جمعاء، وسيبقى وصمة عار وخزي في التاريخ الإنساني بالكامل.
تشير الإحصائيات إلى أن طائرات الاحتلال الإسرائيلي ومدافعه قتلت حتى هذا التاريخ نحو 13 ألف طفل، وأكثر من 5 آلاف من طلبة المدارس، ونحو 1000 طالب جامعي، وقرابة 300 من العاملين في قطاع التعليم العالي، وأكثر من 70 مبدعاً فلسطينياً من الكتّاب والمثقفين والشعراء والفنانين.
باتت هذه الأرقام الصادمة والمفزعة تشغل الإعلام المحلي والعالمي من الأخبار وعناوين الصحف والمجلات، بطريقة جافة توحي بالإعتياد على المشهد، ولكن يجب علينا أن نتذكّر دوماً أن وراء كل رقم هناك إنسان.. إنسان فقد حياته وحلمه. وشهداؤنا في غزة ليسوا مجرد أرقام، بل أشخاص وأحلام وتجارب. هم آباء وأمهات وفلذات أكباد وأجداد وطلاب ومسعفون وصحافيون وفنانون، وأطفال يريدون أن يحيوا بسلام وأمن كغيرهم من أطفال العالم.
شهداؤنا في غزة هم قامات ومبدعون حققت بعض إبداعاتهم صدى عالمياً، نذكر منهم البروفيسور سفيان التايه الذي إرتقى مع عائلته نتيجة قصف منزله في قطاع غزة، وهو حامل كرسي اليونسكو لعلوم الفلك والفيزياء الفلكية وعلوم الفضاء في الجامعة الإسلامية بغزة، ويعد من أفضل 2% من علماء العالم.
وفي عدوانه لطمس الهوية الفلسطينية، نصف المباني والمؤسسات الثقافية والمواقع الأثرية والتاريخية تقريباً طالها القصف والتدمير من قبل الإحتلال الصهيوني، أبرزها المسجد العمري الذي يعد من أقدم أماكن العبادة في العالم، ومتحف وقصر الباشا، والذي كان يحوي آلاف القطع الأثرية النادرة، ولا يعرف مصيرها حتى الآن. هذا فضلاً عن استهداف محيط موقع - ميناء غزة القديم والمدرج على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي ولائحة تراث العالم الإسلامي. وسرق جنود الاحتلال الاسرائيلي في قطاع غزة نقوداً وذهباً وتحفاً ومعادن ومشغولات يدوية تُقدّر بعشرات ملايين الدولارات.
إن ما حدث من إستهداف للمبدعين والقامات العلمية والطلبة الذين قُتلت أحلامهم وإبداعاتهم التي كانت في طور النمو، إضافة إلى تدمير الأماكن التاريخية في قطاع غزة خلال العدوان الصهيوني، لهو خسارة كبيرة، ليس للفلسطينيين وحدهم، وإنما للمنظومة التربوية والثقافية والعلمية العالمية برمّتها، وللتاريخ الإنساني بالكامل، إذ إن ما تمتلكه غزة من إرثٍ ثقافيٍ وأثريٍ نادر لهو ميراث وملك للبشرية جمعاء.
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي