عامان على اندلاع حرب اوكرانيا. لم تصدق نبوءة خبراء ومحللي ومراكز دراسات تابعة الى دول الناتو. و الى الحد الادنى من التنجيم والتوقعات، والحرب التي اندلعت منذ عامين مع روسيا. و في بداية الحرب كان اعلام الناتو العربي والانجليزي والفرنسي، والناطق بلغات اخرى يتحدث عن حرب قصيرة، وحرب مهمات، وسوف تحسمها اوكرانيا والناتو، وتحقق نصرا خاطفا وحتميا.
وروّج الناتو الى ما يشتهي ويتمنى من نصر سريع، وهزيمة خاطفة للجيش الروسي، وتركيع موسكو، وسقوط حكم بوتين في موسكو، واختيار الناتو لنظام حكم سياسي قريب ومحسوب وموال للناتو، وتقسيم روسيا وتجزئة وحدتها الترابية. ميدانيا، المجريات تقول العكس، و»نبوءة الناتو «، والتحولات والتطورات الميدانية تقول : ان ما يجري هو عكس المصالح الاستراتيجية والاهداف الكبرى لامريكا والناتو.
و ظهر ان روسيا دولة قوية.. وتتحصن في قوة اعقد مما تتخيل واشنطن وحلفاء الناتو.. قوة نووية، ترسانة عسكرية متقدمة، ومتانة اقتصادية رغم الحصار الامريكي و الغربي، وان موسكو بنت علاقات وشراكات اقتصادية دولية متينة.. واقوى واكبر مما روجت واشنطن ودول الناتو، وبدت موسكو في عامي الحرب مع اوكرانيا اقوى وامنع مما مضى.
وفي الذكرى السنوية للحرب، وفي ذات التقويم، وعشية العام الاول من الحرب، الرئيس الامريكي بايدن زار كييف. وذلك لكي يعلن عن دعم امريكا ووقوفها الى جانب اوكرانيا، ورفع معنويات الجيش الاوكراني والتعبئة العسكرية، ولخلق موقف غربي داعم ومساند للناتو في حرب اوكرانيا، ودعم دخول دول اوروبية محايدة الى الناتو. و في العام الاول من الحرب بدل وعدل بايدن في خرائط الناتو، ووسع من رقاع الدول المنطوية تحت مظلة الناتو، وكثف من انخراط دول اوروبا الشرقية في العمل العسكري على حدود اوكرانيا.
و بايدن اكد على ان امريكا لن تتخلى عن همينتها على النظام العالمي..و مهما كانت الاساليب والتبعات والكلف، فالاحادية الامريكية حتمية وقدرية تاريخية في منظور الرئيس بايدن، وغيره من رؤساء امريكا السابقين واللاحقين. و ان حرب اوكرانيا صراع على المستقبل. واما الديمقراطية وحقوق الانسان والدفاع عن سيادة واستقلال اوكرانيا ووحدتها، وحماية امن اوروبا من التوغل الروسي، فهي مجرد حجج وذرائع لمشروعية الحرب.
و من زوايا الاستراتيجية الامريكية فان حرب اوكرانيا من اجل هيمنة امريكا على النظام العالمي المتهالك.. والناتو كلمة السر في بقاء هيمنة امريكا، وان اختلفت نظرة الرئيسين بايدن وترامب الى الناتو.
و اما بوتين، فانه يتطلع الى بناء نظام دولي متعدد واكثر عدلا، ولا تتحكم به دولة واحدة. ومن بداية حرب اوكرانيا، فان بوتين يملك مشروعا عالميا لمناهضة امريكا وهيمنتها، وخاطب بوتين الضجر والقرف والملل العالمي من امريكا، سواء المعلن والخفي.
و القرف العالمي من هيمنة القطب الواحد، ترسيم النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وافول الحرب الباردة، والسيطرة والاحكام الامريكي المطبق على النظام العالمي والمنظمات والمؤسسات الدولية.
«حرب اوكرانيا» مفتاح سحري الى تفكيكك الاحادية والقطبية الامريكية.. وان كانت روسيا تحارب وحدها، ولم تحظ بدعم وافر من الحلفاء الاقوياء كالصين مثلا. و من بداية حرب اوكرانيا، وامريكا يزداد تحرشها في الصين، وابتزازها، واتهامها في دعم والمشاركة في حرب اوكرانيا، وتضخيم التهديد العسكري في بحر الصين واحتمالات نشوب حرب كبرى. و من حرب اوكرانيا، فان العالم يقف بين نظامين دوليين قديم متهالك ونظام جديد متعثر الولادة، ويطل من نوافذ كثيرة، وليدخل العالم الى عام جديد من حربي غزة واوكرانيا.
و في العام الماضي من حرب اوكرانيا، فان امريكا انخرطت في حروب الشرق الاوسط. وبعد عملية طوفان الاقصى، هرعت الى دعم اسرائيل عسكريا وسياسيا، واعلاميا. وتساند امريكا بما تملك من قوة لدعم الابادة والقتل الجماعي والتهجير والتجويع في غزة، ولكسر ارادة المقاومة والشعب الفلسطيني.. وتنخرط في حرب مباشرة مع الحوثيين في البحر الاحمر. وبعدما كانت امريكا اعلنت عن الخروج من الشرق الاوسط، وعقيدة اوباما بعدم التدخل العسكري، ورفع جيش امريكا عن الارض.. وحرب البحر الاحمر، هي اكبر معركة بحرية منذ الحرب العالمية الثانية.
و تواجه امريكا عزلة دولية في الامم المتحدة ومجلس الامن، وللمرة الرابعة على التوالي تستخدم حق النقض الفيتو ضد قرارات دولية لوقف اطلاق النار في غزة. ومن حرب غزة، وهذا الوجه الحقيقي للنظام الدولي الليبرالي الامريكي.. وتمسك امريكا في الريادة المطلقة في العالم.. وفكرة الريادة بلورها مثقفون وسياسيون وعسكريون امريكيون، وهي ترجمة لفكرة نهاية التاريخ وصراعات الحضارات لهمنتيغون.
و من دروس التاريخ، قد تكون غزة هي بداية تغيير العالم والصراع العالمي.. ومستقبل النظام العالمي سوف يقرر من غزة، ومن فوق بحيرات الدم في اوكرانيا.