بقلم الدكتور أحمد محمود الحسبان - كُلّما تقدمنا بالعمر تزدادُ الفراغات في فضاءات النفس، فراغاتٌ كانت ملآى بالمودة والقرب ؛ فلربما نفقدُ أحبةً بسبب الموت، أو ربما نفقدُ آخرين أحياءً لأسباب أخرى، قد نكون نحن مسببيها أو هُم، غادرونا أو غادرناهم لا يهم، الأهم ان فراغاً ما قد استحدث. وبكل فقدٍ يتلوه فقدٌ، تزداد فراغات تلو فراغات. وعندما يحين الوداع الأخير؛ يكون المرء قد تحول الى شبح من خيالات حزينة، وفجوات تتسع ولا تضيق، حتى تتقاطع وتمسي الفواصل بينها دقيقة رقيقة، وتزداد اتساعاً وبعداً وعمقاً حتى لا تكاد تملأؤها الذكريات الجميلة، التي تحاول عبثاً للفتق رتقاً - ولكنها دوماً تفشل.
العابرون والمارقون الجدد لا يملأون ما قد فات من فقدان، هم كسرابٍ جميل لا يروي عطش النفوس، سرعان ما يتلاشى عند أول لقاء حقيقي، فتبقى الفراغات تعاني من الوحدة والغربة عن الذات. حتى العائدون بعد الخدوش؛ لا يملأون أجزاء بسيطة من الحيز الذي كانوا يقطنون فيه.
قد يكون هذا الإحساس محض خزعبلات في عالم المنطق والمادة، ولكنه سرعان ما يتحول من إحساس الى آلام عضوية حادة تنخر بهرمونات الجسد، فكم من أمٍ لحقت بابنها حزناً عليه، وما ابيضت عينا يعقوبَ إلا بعد غياب يوسفَ بغيابات الجب، وما كان قلبُ أم موسى ليهدأ لولا أن ربط ربنا عليه اذ ألقت به في اليم، وما كان عام الحزن بهذا الاسم لولا عظيم الحزن جراء فقد خديجة وعبد المطلب، وكان ابراهيمُ سبباً لحزن رسولنا الكريم عندما غادره صغيرا. حتى أبو بكر، ما كان ليرتوي نفسياً الا اذا شرب خليلُه المصطفى.
في علم الاجتماع والاتصال، يقال ان عظم ساق الآدمي كان سبباً بالتآلف والاجتماع، من تُكسر ساقُه تأكله الوحوش الضارية، فإن لم يجد من يحمله لمأوى آمنٍ فقد حياته. عظمُ الساق كان سبب تقارب البشر في العصر الحجري ابان القحط والمحل والجوع، وهو ذات السبب لتفرقتهم في زمن الرفاه والتقدم، فسرعان ما يرحل الراحلون عليه، ويرخون سيقانهم للريح هرباً من وجوه أحبتهم، ولو قعدوا لتآلفوا، تعاتبوا ثم تعانقوا. أمسى الخطرُ المحدقُ بنا هو خطر النفوس الداخلي ، وليس خطر وحوش البر الضارية.
الفراغاتُ تزداد بازدياد العمر ومصالحه ومنافعه، لتمتلئ الجيوب بالأموال، والبيوتُ بالأثاث، والسيارات بتكنولوجيا الانعزال، والعقول بأوهام الشهوات، والعيون بالمناظر المصطنعة، وتخلوا من جمال الطبيعة بأنهارها وأشجارها وخلاب اطلالاتها. كل شيء يمتلئ بالبدائل الافتراضية، عدا النفوس، تفرغ من مضامينها الانسانية. وهذا ما يجعل حقوق الانسان تظهر بين الفينة والاخرى تدافع عن حفظ النفس ومقاصدها، ثم تخبو عند أول ظلم مبرر، أو احتلال غاشم، او سلطوية جبارة، فتنسى كل مبادئها ضعفاً امام جبروت مادة الانسان.
خلاصة التفريغ، يموت الآدمي فارغاً، فارغاً من كل شيء، حتى من اجتماع الانعزال، فنحن معاً كلنا، ولكننا - وحيدون فارغون ومنعرلون.
الكاتب: الدكتور أحمد محمود الحسبان