زاد الاردن الاخباري -
بسام البدارين - ما لا يدركه المنتقدون المحليون وغيرهم هو أن حصة معقولة من مشروع وتكتيك الإنزالات المظلية للمساعدات في قطاع غزة هدفه، أو من بين أهدافه الرئيسية، مخاطبة الداخل الأردني أيضاً بمعيار له علاقة بالأمن السياسي العام قبل شهر رمضان المبارك، والانتقال إلى مستوى متقدم بالتوازي من إضفاء المصداقية ولو جزئياً على الموقف الرسمي القائل بكسر الحصار.
يقول الرسميون بذلك خلف الستائر وفي الغرف المغلقة. والجزئية التي يركز عليها هؤلاء المنتقدون تحت عنوان يفترض بأن الإنزالات الجوية استعراضية أو قد لا تعني الكثير، سبقت إليها أصلاً الأطر المرجعية؛ فالملك عبد الله الثاني شخصياً اعتبر تلك الحزمة من المساعدات «ليست كافية» ولا تلبي الاحتياجات الملحة.
في المقابل، ما لا يدركه الملاحظون والمنتقدون أن مساحة الاختراق للحصار، على رمزيتها، ساهمت في تسليط الضوء أكثر على المجاعة التي كانت تطرق الأبواب في قطاع غزة، وأن واحدة من هذه المكاسب المفترضة لهذا التكتيك في المواجهة والاشتباك هي تلك التي تقول بجملة معترضة إن الأردن ضد الجوع، في رسالة للداخل قبل الخارج، وعلى أمل لفت الأنظار إلى أن منهجية التجويع الإسرائيلية في الواقع لا تؤذي الفلسطينيين أو أهل غزة فقط، لأن ما يقترحه في نقاش مع «القدس العربي» الخبير السياسي والاقتصادي أنور الخفش، هو أن الجميع له هدف أخبث وأعمق يتمحور حول التأسيس للتهجير.
يلاحظ الخفش أن الأردن، ولو بالقطعة والتقسيط، اشتبك مع ملف المساعدات والإنزالات والتجويع من باب فهمه الأعمق لمخططات التهجير، فيما يسجل خبير سياسي واقتصادي من وزن الوزير الأسبق الدكتور محمد الحلايقة مجدداً تنلك الملاحظة المنهجية التي تقترح أن ما يجري في غزة عموماً وفي شمالها خصوصاً، هو محاولة مفضوحة وغير أخلاقية تضر طبعاً بالأمن القومي الأردني والمصري والعربي والإسلامي، لجعل قطاع غزة «مكاناً لا يمكن العيش فيه».
وما يسعى الحلايقة لتوثيقه هو القناعة أيضاً بأن الأردن من واجبه الاشتباك وبكل الأوراق الممكنة مع ذلك السيناريو الخبيث والخطير، بمعنى التأسيس للمفارقة التي تقول إن دعم وصمود وإسناد مواطني شمال غزة الذين رفضوا النزوح هو درجة من الانسجام بالنتيجة مع رؤية الأردن لمصالحه الأساسية.
قيل في غرف عمان المغلقة مراراً وتكراراً مؤخراً إن تحفيزاً أو مكافأة ما من الواجب تقديمها لمن بقوا في شمال القطاع على الرغم من القصف العنيف والهمجي، فصمود هؤلاء حتى بمعايير ما سمعته «القدس العربي» مباشرة من وزير الخارجية أيمن الصفدي، أولوية أساسية للأردن ولحراكه الدبلوماسي.
كيف خدم أهل شمال غزة الأمن القومي الأردني؟
والمعنى هنا أنه لا خلاف بين من يعتبرون الإنزالات على مشكلاتها إنجازاً ولو بطيئاً أو صغيراً على درب الاختراق للحصار، وبين التيار النخبوي الذي يشكك بجدوى وإنتاجية الإنزالات المظلية باعتبارها تكريساً للحصار.
بين وجهة النظر تلك والأخرى، يمكن رصد مساحة مشتركة تقول إن صمود ديموغرافيا أهل شمال غزة هو مساحة في الاتجاه المعاكس للتهجير الذي يرفضه الأردن شكلاً ومضموناً، لا بل اعتبره ملكه بمثابة إعلان حرب.
وأغلب التقدير أن مثل هذه المساحة هي التي تدفع الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية، الوزير مهند المبيضين، لإبلاغ إحدى القنوات الفضائية ظهر الأربعاء بأن الأردن خطط لتطوير الإنزالات المظلية والتحاق دول شقيقة وصديقة بها حتى تستمر وحتى -وهذا ما لم يقله المبيضين مباشرة- يتم لفت أنظار الجميع للمجاعة.
ثمة بوابة إنسانية، بمعنى أن احتواء الرد على العدوان مادام النظام الرسمي والعربي ومعه الدولي أخفقوا جميعاً في وقفه هو الاستراتيجية الوحيدة المتاحة بموجب موازين القوى أمام المؤسسات الأردنية؛ لأن بعض تحذيرات قيادات فلسطينية كانت تصر على تقديم النصيحة لعمان بالتركيز على الجانب الإنساني باعتباره محور منهجية جعل الإقامة في غزة وفلسطين صعبة ومعقدة وتنطوي على شقاء. وهذا ما فهم طبعاً من الجوهر الذي اقترحه ثلاث مرات على الأقل القيادي العريق في حركة فتح عباس زكي، كما تحدث عنه الدكتور مصطفى البرغوثي.
خلف ستائر القرار الأردني وفي بعض الغرف المغلقة، يقال إن تطوير منهجية الإنزالات المظلية لم يكن هدفها إنقاذ أهل شمال غزة ولا التمكن من إدخال كميات ضخمة من المساعدات، بقدر ما كان ضرب عدة عصافير بحجر واحد محتمل، أهمها الالتفاف بدبلوماسية ناعمة على القيود التي تفرضها مصر حصراً على معبر رفح، بالإضافة إلى منع ـ قدر الإمكان- تذخير القوى السياسية المحلية في الشارع عشية شهر رمضان المبارك بالحجج والحثيثات التي يمكن أن تعزف على وتر التجويع والتعطيش بشكل مؤذ داخلياً.
والمقصود هنا حتماً في الخلاصة السياسية، هو العمل على تجاوز العقدة المصرية في مسألة الحصار، وإدخال المساعدات، ومنع توفير مادة جدلية في الشارع الأردني عنوانها أن المملكة لا تفعل شيئاً للجوعى والعطشى في شهر رمضان المبارك، ولو برسالة موازية تقول إن المملكة حاولت واجتهدت واتجهت نحو ما تستطيع فعله أساساً.
هي في كل حال معادلة مركبة. ومجدداً، ما يقوله الرسميون إن العالم اليوم تنبه، وإن الإنزالات الجوية التي تعرضت للقصف والتشكيك وكانت بسيطة وبائسة في البداية انتهت بإنزالات أكبر، هذا أولاً. وثانياً بتحضيرات خاصة لفتح جسر بحري عبر قبرص خلافاً لأن المناخ في المجتمع الدولي أصبح مضاداً، وهذا ما يقوله ضمناً الوزير مبيضين لفكرة التجويع والتعطيش، بمعنى التهجير أيضاً وحصراً عشية شهر رمضان المبارك. وفي النقاش الأردني الداخلي حالة تجول بين الألغام في فهم أو محاولة فهم الرسائل الأعمق وراء الإنزالات الجوية.
«القدس العربي»