منذ أنطلقت طائرة صقور سلاح الجو الملكي من الأردن، لم يفارق نظري نافذتها وأنا أرقب متى سأرى غزة، ومشاعر الخوف تسيطر عليّ كيف سأرى هذه المدينة التي قاربت حرب الاحتلال عليها الخمسة أشهر، وأظن أنها سترفع رأسها للطائرة التي تسيّرها سواعد نشامى القوات المسلحة الأردنية التي قدمت وتقدّم وستقدّم لهم العون والسند، ترفع رأسها شاكرة.
بقيت عيناي على النافذة وكلما شاهدت بعض مبان سألت زملائي عنها، ليخبروني بالطبع بمدينة ليست غزة، ولا أنكر عندما مررنا من فوق فلسطين ومدن الضفة الغربية، بكى قلبي قبل عيوني، تبدو من السماء جميلة، لكنها حقيقة تعيش وجع غزة ووجع الاحتلال، ملامحها كانت بعيدة عن العين، لكنها قريبة قرب الوريد للقلب والروح، وعطر ياسمين نابلس وعنب الخليل وكعك القدس وأشجار رام الله، وصل للقلب والروح، نظرت لهذه الجغرافيا من العالم المحتلة الباحثة عن الحياة والباحثين عنها نحن في حياتنا، حاولت أن لا تغادر عيناي النافذة لأنال حصة كبيرة من جمالياتها، تعلّقت عيناي وروحي بالمكان.
وفي دقائق سمعت صوت نشمي من نشامى سلاح الجو يخبرنا أن الإنزال بالمساعدات الإنسانية والإغاثية للأهل في غزة سيكون بعد عشر دقائق، ما يعني أننا فوق غزة، أقسم أني لم أدرك ذلك لأن ما رأيت رمالا وترابا ودمارا ورمادا لكل شيء، حاولت أن أبحث عن ما يؤشر لي بأني في سماء غزة، لكني لم أجد سوى واقع مرير يحكي معنى واحدا، هذه غزة هنا كانت حياة!.
مدينة خالية من كل ما يؤشر للحياة، لكنها صامدة وشعبها صامد، فمجرد اقتراب طائرة نشامى القوات المسلحة لأرض غزة، سمعنا الأطفال والرجال يهتفون لجلالة الملك عبد الله الثاني وللأردن، ويغنون لمن لم يخذلهم ولم يتركهم وحيدين يواجهون أبشع الحروب التي عاشتها البشرية، عندها شعرت بأن هذه المدينة ما زالت على قيد الإصرار والعزيمة، والبقاء الثابت، ففي أصواتهم حياة وفي هتافاتهم رسائل حبّ غزية للأردن، سمعتهم لأشعر بأن غزة على الأرض ليست كما في السماء إذ تبدو مدينة غائبة عن الحياة لكنها على الأرض تصرّ على الحياة لشعب يليق به العيش المميز.
بقيت أنظر لغزة وأصوّرها والتقطت صورا بكل ما أوتيت من سرعة، فالوقت ليس صديقي بهذه الأثناء، وسرعان ما سينتهي، وبعد الإنزال العظيم بسواعد عظيمة، عادت الطائرة أدراجها للوطن، لتصغر صورة غزة شيئا فشيئا كلما ابتعدت الطائرة عن أجوائها إلى أن اختفت، لأكتفي بصوري التي التقطتها والفيديوهات التي صوّرتها، أكررها عشرات بل مئات المرات وأنا أشاهد غزة التي باتت مدمّرة، بكافة تفاصيلها، مكان على هذه الأرض بدائي لا يوجد به أدنى مستلزمات الحياة الطبيعية، لكن بها شعب يعشق الوطن والحياة.
عدت من غزة بعدما شاركت بالإنزال الجوي بالمساعدات الأردنية للأهل في غزة، أحمل صورا وألما ووجعا كنت أخافه قبل أن أذهب لها، وزاد حجما وعمقا بعد رؤيتي لها، عدت وأنا أحمل مشاعر فخر بوطني واعتزازا بنشامى القوات المسلحة وسلاح الجو الملكي، عدت والكثير من التفاصيل اختلفت وحتى القناعات، فغزة لم تعد غزة والأردن لن ولم يتركها وحدها، فهو السند والعون مضمدا جراحها محافظا على فرحها.
صوت نشمي سلاح الجو لم يؤشر لي فقط الى أننا وصلنا غزة، إنما صوته وصوت الطائرات الأردنية تؤشر للحياة لأهلنا في غزة، كما أشّر لي بأن هذا ما تبحثين عنه ولو بصمت، هذه هي غزة التي بحثت عنها عيناي لأكثر من نصف ساعة، فوجدتها وقد نال منها الدمار ولم ينل من صمود أهلها، ونالت منها الحرب ولم تنل من الإصرار على الصمود.