كم التضليل والأكاذيب فيما يسمى (الحرب على غزة) فاق الوصف وآخرها أن الولايات المتحدة الأمريكية، الشريك المباشر في حرب الإبادة على غزة، تريد بناء ممر مائي لأسباب إنسانية وتوصيل المساعدات لأهل غزة.
فهل يعقل أن تفشل واشنطن والغرب والأمم المتحدة ودول الجوار في إقناع أو إجبار إسرائيل على دخول المساعدات عبر معبر رفح وكرم أبو سالم ويتعثر إنزالها جواً ثم توافق إسرائيل على فكرة الممر المائي بسرعة ويدعم وتمويل الاتحاد الأوروبي ودول عربية وخصوصاً دولة الإمارات العربية؟
دخول أمريكا الحرب بالقوة التي شاهدناها منذ اليوم الأول لم يكن لأن وجود إسرائيل مُهدد بالزوال من طرف حركة حماس وغزة أو من طرف ما يسمى محور المقاومة بل لأن واشنطن شريكة في حرب تم التهيئة لها مسبقاً، تتجاوز غزة ولهدف أبعد من القضاء على القدرات العسكرية لحماس وتصفية قادتها وضمان عدم تكرار ما جرى في السابع من أكتوبر في غلاف غزة.
خمسة أشهر واسرائيل تزعم أنها تحارب حماس وتبحث عن قادتها، وفي الواقع وعلى الأرض تقوم بتدمر غزة وتقتل عشرات آلاف المدنيين وتُرحِل من تبقى إلى رفح تمهيداً لتهجيرهم خارج القطاع، بينما قادة حماس في قطر على مسمع ومرأى إسرائيل وواشنطن.
لم تبدأ إسرائيل حربها باستهداف قادة حماس ومقر قياداتها بل بقصف مدمر لمنطقة الرمال الأكثر ازدهارا ورقيا في القطاع، ثم بدأت في 27 من نفس الشهر العملية البرية من الشمال بزعم أن قوة حماس وقادتها يتمركزون هناك، وعندما تم تدمير مدن ومخيمات الشمال ولم يجد جيش الاحتلال أو يقتل أحدا من قادة حماس الذين نشر الجيش صورهم وأسمائهم وزعم أنهم يختبئون في المستشفيات وخصوصا في الشفاء والقدس والعودة والمعمداني، وأعلنت إسرائيل أن جيشها سيقتحم المستشفيات! وبعدما دمرت المستشفيات وكل ما حولها من أحياء بكاملها وقتلت وجرحت الآلاف قالت إن قادة حماس هربوا للجنوب، وأعلن قادة الجيش أن العملية ستنتقل إلى معسكر البريج وشرق القطاع، ودمروا وقتلوا وجرحوا الآلاف من الأطفال والنساء دون أن نسمع بقتل أو اعتقال أحد من القادة المطلوبين.
وتواصلت جريمة الإبادة الجماعية بقصف على مدار الساعة بحجة البحث عن قادة حماس ليعلن الجيش أن قادة حماس يختبئون في أنفاق خانيونس، وأعلن أنه ستبدأ عملية برية هناك وبدأت العملية في الثالث من نوفمبر ّ! ولأكثر من ثلاثة أشهر لم يجدوا أو يقتلوا أحدا من المطلوبين.
بعد أن عاثت دمارا وتقتيلا في مدينة خانيونس أعلنت أنها ستنتقل لمرحلة جديدة باجتياح مدينة رفح، وضح العالم وتعالت الأصوات منددة ومحذرة من هذه الخطوة التي قد تؤدي لمجازر تفوق كل المجازر السابقة بسبب الكثافة السكانية في رفح واحتمال اندفاع الناس نحو سيناء، وما زال سيف اقتحام رفح مسلطا على رقاب مليون ونصف من البشر.
خلال كل هذه الأشهر الخمسة وبحجة البحث عن قادة حماس وتدمير قدراتها العسكرية كان جيش الاحتلال يدفع الناس تحت القصف للانتقال من الشمال إلى الجنوب ليحصر حوالي المليون ونصف في مدينة رفح الحدودية مع مصر مع منع دخول المساعدات لكل القطاع وخصوصا لأهل الشمال، وفي نفس الوقت كانت إسرائيل تعمل على افشال اي محاولات للتوصل لاتفاقات وقف إطلاق النار أو حتى هدن إنسانية -باستثناء هدنة مؤقتة في أواخر نوفمبر ولمدة أسبوع- ولم تتوقف المفاوضات من القاهرة الى موسكو وباريس وأوسلو حول الهدنة ووقف النار ومستقبل قطاع غزة، وكلها فشلت أو تعثرت حتى هدنة مؤقتة في شهر رمضان، وأخيرا في خطاب للرئيس بايدين حول حال الاتحاد في الثالث من مارس أعلن عن مشروع الممر المؤقت لإدخال المساعدات الإنسانية متجاهلا أن واشنطن تتحمل المسؤولية الكبرى عن معاناة أهل غزة وجرائم الاحتلال وما زالت تمد إسرائيل بكل ما يمَكنُها من الاستمرار بالحرب وتغطي على جرائمها وتحميها من أي إدانة في المنظمات الدولية.
ما سيق يؤكد أن الأمر يتجاوز مواجهة تهديد حماس، دون تجاهل البطولات الفردية للمقاومين في غزة، وأن هناك لعبة أمم كبيرة تبدأ بحرب غزة ولا تنتهي عندها.
العقبة أمام تنفيذ هذا المخطط ليس الكتائب المسلحة لحماس فقط بل الشعب والقضية الفلسطينية برمتها وقطاع غزة على وجه الخصوص بكثافته السكانية وتاريخه الوطني المقاوِم للاحتلال.
وواشنطن في سياق حربها الكونية في مواجهة روسيا والصين دفاعاً عن مصالحها القومية مستعدة للتضحية بغزة وأهلها وحتى بحلفائها التقليديين حكام مصر والأردن، وكل حديثها عن الشرعية الدولية والقانون الدولي والاعتبارات الإنسانية والمفاوضات العبثية حول الهدنة وتبادل الأسرى ... مجرد أكاذيب وذر للرماد في العيون.
ما يسمى الممر الإنساني المؤقت سيبدأ بدخول مساعدات إنسانية وفي هذه الحالة لن يعارض أحد من قطاع غزة الجوعى، وسيجد ترحيبا من عديد دول العالم وستظهر امريكا كدولة إنسانية تدخلت في الوقت المناسب لإنقاذ أهالي قطاع غزة وفرضت رأيها على إسرائيل، ولكن بعد ذلك سيتم استعمال الممر لتسهيل هجرة أهل غزة لقبرص، ثم يتحول لميناء دائم لتنفيذ مخطط أو مشروع خط الهند الذي سينافس خط الحرير الصيني أو الحزام والطريق الذي تشتغل عليه الصين وروسيا ودول البركس منذ سنوات، وسيكون غاز غزة وقناة بن غوريون ضمن هذا المخطط، وبالتأكيد لن يكون الممر أو الميناء تحت اشراف السلطة الفلسطينية بل اشراف إسرائيلي أمريكي مشترك، ولا نستبعد إحياء مشروع دولة غزة التي ستكون جزءا من هذا المخطط الكبير وخارج السياق الوطني. .
Dr: Ibrahem Ibrach
Professor of Political Science
Gaza- Palestine