فاقد الشيء لا يعطيه. ذلك مثل ما زال حاضرا. لكننا في زمن يشير إلى إن فاقد الشيء لا يعرفه أصلا حتى يعطيه، فيصير بذلك جاهلا بأنه فاقد! بل ويأخذ الجهل بنواصي بعضهم إلى استهجان حرص الآخرين العقلاء على ألا يكونوا فاقدين.
لك أن تتخيل حجم الفقد وحرج الجهل عندما يكون الحديث عن حُرمات وطن، ومن بينها السيادة. السيادة التي لا تتحقق إن تجزأت أو تعطّلت أو انتُقصت. السيادة التي تملكها الدولة بكافة أقانيمها، ويمثلها العرش وصاحب التاج، المليك المفدى حامل الأمانة، صاحب الولاية، رافع لواء الشرعية الوطنية والقومية والدينية، السياسية والتاريخية. فما بال بعض القوم يتطاولون فيشككون، يهمزون ويلمزون، حتى بلغ الأمر ببعضهم حد التطبيل لمن يريد المس بسيادتنا واختراق حرمة أرضنا وسمائنا.
يعلمون هم ومن يوالون أنه ولضرورات السلامة العامة على الطرق، تقيم الشرطة في سائر أرجاء المعمورة -ومنها بلاد نظم وتنظيمات من يوالون-تقيم ما يعرف بالحواجز الطيّارة. هي طبعا لا تطير! ما هي إلا كناية عن القدرة على تنقّلها وإعادة تموضعها بلمح البصر، كلما اقتضت الحاجة إلى تنظيم حركة العبور والسير للمركبات والمشاة.
وكل من قاد أو ركب سيارة بأربع عجلات أو ثلاث في بلاد تستخدم «التوك توك» للتنقل في الحارات الضيقة والميادين المزدحمة، يعرف دوريات شرطة السير، الراجلة منها والمؤللة، الثابتة منها والمتجولة. قبل عقود، كانت تلك الدوريات تعرف بالخارجية، كونها على أطراف المدن والبلدات لا داخلها.
هكذا، حتى أتى زمن العولمة والرقمنة بكل ما فيها وما عليها، فصارت الحواجز ضرورة أمنية حتى أمام المولات والفنادق وأماكن اللهو البريء كالمتنزهات العامة. حتى دور العبادة لم تسلم من الحاجة إلى نصب كاميرات مراقبة وعناصر أمن بالزي الشرطي والمدني لضمان حق الناس في العبادة بأمن وأمان، وسكون وطمأنينة.
أخطّ هذه السطور -الإثنين- وقد صدم الناس في هذه الأيام المباركة، من اعتداء غادر جبان تعرض له الأسقف العراقي الآشوري -مار ماري عمونائيل- وقد هاجر وهو في الثالثة عشرة من عمره المديد المبارك إلى استراليا، ليتعرض وبضعة مصلين إلى طعنات إرهابي مجرم وصفوه بالمختل عقليا، أثناء يوم صلاة وتعليم مكرس باللغة الآشورية-السريانية كل إثنين، في كنيسة المسيح الراعي الصالح، في إحدى ضواحي سيدني. تخيلوا إخوتي القراء الكرام أن المتهم في هذه الجريمة النكراء وصفه والده بالمعتوه الحاقد على المرأة وليس المنافح عن عقيدته، جراء فشله المتكرر في قبول أي فتاة به كمشروع خطيب وزوج المستقبل! الجاني والمجني عليهم في هذه الحالة تحت سيادة القانون الأسترالي، بصرف النظر عن الدوافع والأعذار. وإن كان المتهم في هذه الجريمة النكراء ابن لاجئ سوري مسلم، أخرج ما في باطنه من أحقاد وأوهام وضلال، طعنا هستيريا استهدف وجه وصدر راهب واقف بحبور خلف منبر عظته في كنيسته «المهاجرة»، على ابن لاجئ عراقي، كلاهما ينعمان بالمواطنة الاسترالية!
لم تعد المتفجرات وحدها العدو بل السموم المسماة المخدرات وحتى المسيّرات والسيّارات والسكاكين. ونحن في زمان ومكان صار فيه مروجو الصنفين الأسودين -الإرهاب والمخدرات- عصابة واحدة، نظاما كانت أم تنظيما. لا تضلنا الأسماء ولا تخدعنا أبدا، ما دام ديدنهم ثقافة الكراهية والموت والفوضى والخراب وطبعهم الخيانة والغدر. كم هو صادم أن يكون الجاني والمجني عليه في استراليا منحدرين من بلدين شقيقين متجاورين بل ومن حزب واحد، اعتبر من قلاع العلمانية ومشاعل التقدمية في الشرق الأوسط. ليت القائمين على أمن الكنيسة وسدني وضعوا اتخذوا الإجراءات الاحترازية اللازمة لكشف امر المعتوه وتم التحفظ على خنجره (وقد كان موسا كبّاسا تعطّل بعضا من الوقت) وقد بدى وكأنه يحاكي مسلسل «الحشاشين»!
طبعا وقاية من «حشاشي كل زمان» واتقاء لشرورهم أقيمت الحواجز والسواتر. ترابنا وأرضنا، نهرنا وخليجنا، سماؤنا وفضاؤنا كلها مصانة..
فهل ينتظر منا مخبول أو مغيّب أو متنطّع، أيا كان اتجاه بوصلته الحزبية، أن نقيم دوريات طيّارة جوية في سمائنا، فنوقف -مثلا بعد الاتصال بمرسلها- ما ينتهك حرمة أجوائنا فقط إن كانت تحمل متفجرات أو مخدرات؟! لحسن الحظ خلت مسيرات ومقذوفات ليلة الأحد من الحشوات. هل يرضى ذو عقل أو ضمير، أن تترك الناس الآمنين الفرحين بعيد الفطر أو الصائمين انتظارا للفصح المبارك والقيامة المجيدة، أن يترك المدنيون والعسكريون من ذوي الاختصاص في سلاح الجو والمقاومات الأرضية وشبكات الرادار، بانتظار حسن نوايا المرسل أو حسن أداء صناعاتهم العسكرية؟! هكذا وكأن ألسنة النار وكرات اللهيب ما هي إلا مفرقعات عيد أو «فرقيعات» توجيهي أو جاهة أو زفة؟!
أي عبث وأي عدمية هذه لمن طبلوا وزمروا لاختراق السيادة وانتهاك الحرمات؟ ألا بئس ما يدعون إفكا وزورا وبهتانا.
شكرا لنسورنا نشامى الوطن، على إسقاط كل ساقط قبل إسقاط كل جسم غريب على سمائنا..
رحم الله حبيب الزيودي: هذي بلدنا وما نخون عهودها/ونجود لكن جودنا من جودها.. حدودها ما تنرسم فوق الورق/عقلوبنا حِنّا رسمنا حدودها..