المشهد السوداني سريالي من ادناه الى اقصاه. فلا راسم كاريكاتير او كاتب ساخرا قادر على وصف ما يحدث في بلاد النيل.
بلد تتربص به الانقلابات العسكرية، ومن انقلاب الى انقلاب، وتجزئة الى تجزئة اخرى، ومن انقسام الى انقسام.
و من مجاعة الى اخرى. واليوم المجاعة تتفاقم نسبها في السودان، وهو على تخوم حرب اهلية جديدة، وحرب من كل الجبهات تغزو السودان، وهذه المرة العدو ليس غازيا اجنبيا او افرنجيا، بل هو سوداني. و السودان حاله من احوال العرب، وان اختلفت المقاربة والمقارنة في حال جمهورية كتب عليها الجوع والموت.
و لم يعاصر السودان في القرنين العشرين والحادي والعشرين استقرارا سياسيا. و من اول ما انفك عن استعمار الانجليز، وهو يواجه انقلابات متتالية. وكان الانجليز يصرون ان الانقلابات العسكرية الشائعة في عالمنا العربي، تمهد مرحليا وانتفاليا الى مرحلة سوف يعقبها حتما الدخول الى الديمقراطية.
و من السودان صدرت عشرات البلاغات العسكرية، والاعلان رقم واحد. وثورات وانقلابات عسكرية، وكل انقلاب يكون اشد ضراوة في صناعة الموت والفوضى، والتراجع في حياة وتقدم السودان.
و ها هو السودان، اكثر من 20 مليون سوداني يواجهون الموت جوعا.. ومجاعة السودان هي الاكبر في التاريخ الحديث.
و السودان مصاب في عقد الجغرافيا وسخطها ولعنتها.. بلد مساحته هائلة، ويشقه نهر النيل من الجنوب الى الشمال، وكنز غذائي وسلة كافية لسد رمق وجوع امة العرب من الماء الى الماء.
و السودان مبتلى في قادة سياسيين، جعفر النمري نصب نفسه امير للمؤمنين، وعمر حسن البشير بلغت نشوته، وبعدما تخلص من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، في مخاطبة السودانيين بعصا الاغنام. و البشير، وهو بالمناسبة قدم الى الرئاسة على عربة الاخوان المسلمين وتحالفه مع القيادي الاخواني السوداني حسن الترابي، ووقع على وثيقة انفصال السودان، وكان يمهد لانفصال دارفور ايضا، لولا الانقلاب. الانقلاب على البشير، وهو الان خلف القضبان، اتى بالثنائي عبدالفتاح البرهان ومحمد حدمان دقلو.
السودان في ثرواته الزراعية والطبيعية والمعادن والنفط واليورانيوم يفترض ان يكون جنة على ضفاف النيل، واليوم يفيض في المجاعات.
ما يحدث في السودان ليس صدفة وخارج عن حسابات صراعات وازمات الاقليم الجيوسياسية والاستراتجية.
و لاحظوا كم ان دولة اقليمية ودولية تسعى الى موضع قدم في القارة الافريقية وفي السودان تحديدا. و حرب الممرات المائية في البحر الاحمر والمحيط الهندي، وما فرض الحوثيون في مضيق باب المندب من استهداف وملاحقة الى السفن والبواخر الاسرائيلية.
فقد فجرت العواصف الحوثية في البحر الاحمر وقطع وصل اسرائيل من البحر العالي الاهتمام مرة اخرى في خرائط البحر الاحمر والدولة المطلة عليه. السودان اليوم عار، وما يحدث في السودان مبرمج ضمن حسابات للاعبين اقليميين ودوليين كبار. والصراع الامريكي والروسي والصيني على الجغرافيا السودانية والمعابر والممرات المائية. وعدا عن ملاحق لصراع تحركه دول اقليمية فاعلة ومؤثرة في صراع السودان وازمات الاقليم المتصاعدة.
ما يحدث في السودان ليس قدره، وليس اخر مصائب العرب. والتاريخ والغيب معجزة العرب، وكم ان الغيب يخفي للعرب ويلات ومصائب.. والسودان في قاع وادي النيل وخريطة البحر الاحمر يطل على شواطئ غزة.