لن أسردَ قصةً أنا بطلُها، وحائكُ حبكتها؛ فكلُّ بطولاتِ هذا الزمن كرتونيةٌ هشة، لم تُجدِ نفعاً عند من ماتوا قتلاً، وكل الحبكات خيالية. سأسردُ هذه المرة قصةَ الإنسانية الأزلية، كيف تلاقوا في صباحاتها الأولى غرباءَ على ظهر سفينةٍ وسط أمواجٍ كالجبال، وأمسوا اليوم أعداءً يتناحرون على القليل رغم كثرته، قصة فلسفة (لقاء الغرباء).
ما أبسط هذا اللقاء البريء بلا مصالح، لا تكاد الساعة الزمنية الواحدة احتواءه، حتى لو غنته كوكب الشرق أم كلثوم بتكرارِ لا يُمَل، ونظمَ قوافيه ابراهيم ناجي، طبيب الأدباء وأديب الأطباء، في رائعته (الأطلال). فلا زال هذا اللقاء يُجرّد الانسانيةَ من قشورها وزيفها، يبحث فيه الغرباءُ بلقياهم عن أبسط الكلمات للتعبير عن أبسط الأفكار، وأبسط الأوصاف لدواخلهم الهشة.
فالبرغم أن أساسه التعارف والإحترام، (وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا) إلا أنه يُعَدُّ اللقاءُ الوحيد الذي لا تعتريه أقنعة النفاق، كلا الطرفين فيه يبدوان حقيقيين. لا يسأل أحدهما الآخر إلا عن نفسه فقط، لا عن عمله، ولا راتبه، ولا أملاكه وعقاراته، ولا حتى عن خصوصياته وزواجه وأولاده، ولا عمّاذا يمكن لأحدهما الاستفادة من الآخر. هو لقاءٌ عفويّ بلا هدف مسبق الإعداد، سوى أن طاقةً روحانيةً ما -كما يقولون - جذبت أحدهما للآخر دون تردد، وبكل تودد، ولا أمل بتجدد.
وأجمل ما فيه زمانه ومكانه؛ فزمانه صدفة، ومدته قصيرة، وبعده رحيل بلا عودة. أما مكانه فعامّ، على هامش مؤتمر ببلد غريب، أو في محطة قطار تفصل صافرته بين غرباءه، أو في قاعة مطار قبيل الإقلاع، أو في قاعة درس بمحاضرة عابرة، او أمام رفّ بمول أثناء تسوق قصير، أو بنزهة في ربوع الأرض، بغروب نهارها ينتهي كل شيء. إنه أجمل لقاء محدود الزمان والمكان والكيفية.
ليت لقاءَ الغرباء هذا يمتدُ لحياتنا الروتينية، بجمال هدفه الوحيد - التعارف والاحترام فقط. وبزمانه الفريد، وبمكانه العفوي، وبكل جماله. لقد أتعبتنا لقاءات المصالح اللامشتركة، حتى نأينا بأنفسنا وقلوبنا بعيداً عن سعادتها، رغم تقارب أجسادنا، وربما رغم تقارب دماءنا بالقرابة والمصاهرة.
خلاصة القول؛ لقاء الغرباء هو ما تحنُّ إليه النفسُ البشرية مع بعض البشر أحياناً، رغم ندرة حدوثه، وبؤس تعاستهم. لنعيش لحظاته كأننا غرباء عن الدنيا، وتنتهي بساطته بفراق جميل وابتسامة وداع، كلٌ يمضي إلى غايته، بلا أحقاد ولا أضغان - لن تدخل معنا القبور، تفيض به آنيتنا بما فيها من حب واحترام - وبهما تنضح.
الدكتور أحمد الحسبان