اللافت للانتباه في تغطية حرب غزة، أنها تغطي كل شيء، عدا التساؤلات التفصيلية حول ما بعد الحرب، والإجابات الدقيقة، وليس الإجابات العامة التي تجدول الأزمات كل مرة.
نحن ننشغل جميعا بعدد الضحايا الفلسطينيين، من شهداء وجرحى وغير ذلك، وتمر علينا أرقام البيوت المهدمة، ونسمع كلاما كثيرا عن إعادة الإعمار، ولأننا أصحاب عاطفة نركز على الحدث اليومي، ولا نقرأ الواقع الإستراتيجي، وهذا الواقع مؤلم جدا، سيحتاج إلى ما هو أكبر من خطط إعمار، كريمة أو بخيلة، مشروطة، أو بدون شروط، عاجلة أو مؤجلة.
تأتيك اتصالات من زملاء صحفيين من داخل قطاع غزة، واتصالات من أصدقاء لهم أقارب في غزة، والكل يجمع على حقيقة واحدة، أن الجريمة أكبر بكثير مما تصوره الكاميرات وتنقله وسائل الإعلام، لأن الإعلام لا يصل إلى كل مكان، وأغلب الحكايات تم دفنها، أو انشغل أصحابها بالبحث عن مكان آمن، فهذا ليس وقت السرديات الشخصية، ولا رواية الحكايات.
أغلب بيوت قطاع غزة تم هدمها كليا، والتي لم يتم هدمها تخلخلت، والعمارة التي سلمت محاطة بحي مهدوم، وشوارع محفرة، والمستشفيات متوقفة وأجهزتها معطلة، والأدوية قليلة، والمدارس مقصوفة، والجامعات مهدومة، وكلاهما متوقف عن التعليم، والتجارة تم تدميرها، وحتى الأحياء التجارية والصناعية تم قصفها، والاقتصاد تم شطبه، حتى وصل الأمر إلى قصف مصنع أدوية، والمساجد والكنائس تم هدمها، والأرض الزراعية تم قصفها أو تجريفها، وقوارب الصيد تم حرقها، وشبكات المياه تم قصفها، وشبكات الكهرباء والمولدات تم تدميرها، ولم يبق شيء في غزة سوى البشر.
والتفاصيل كلها هنا تقول إننا اليوم أمام كتلة بشرية تعيش فوق أنقاض مدن كانت موجودة، وإذا كان هذا الكلام لا يحبه البعض لأنه يعتبره مساسا بالروح المعنوية، أو انتقاصا من فكرة الوقوف في وجه الاحتلال، فهذا مجرد سوء ظن، أتفهمه بسبب الحساسيات، لكن علينا أن نعترف أن ما بعد الحرب، أسوأ من الحرب، بكل ما تعنيه الكلمة على حياة الناس.
هذا هو الواقع، وربما التساؤلات المؤجلة تتعلق بما يقال عن خطط إعمار، وهي تكاد تكون مستحيلة، لأنك أمام شطب لمدن عمرها 100 سنة في العصر الحديث، وليس أمام أحياء تضررت وبضع خدمات بحاجة إلى استرداد، وهذا يعني ببساطة أنك قد لا تجد دولا في العالم مستعدة لإعادة بناء قطاع كامل من جديد، ولا استرداد البنيان والخدمات، لأن الكلف هنا مذهلة، والتقديرات متفاوتة، وقد يساعدك العالم جزئيا ببضعة مليارات لاسترداد الأساسيات.
حتى الأضرار المعنوية لا يحصيها أحد، وربما قطاع غزة فيه أعلى نسبة أيتام في العالم العربي، زاد عددهم بسبب الحرب، ودور الأيتام تم هدمها، والأضرار النفسية على الأطفال والأمهات وكبار السن وغيرهم، بحاجة إلى علاج، فهؤلاء نهاية المطاف من البشر، ولديهم أحاسيس، ومشاعر، وهم يعيشون منذ سبعة أشهر تحت صوت الصواريخ والقصف، فوق مشاعر الألم والفقدان والخسائر، التي يحاول البعض من باب إكرام الفلسطينيين ومحبة بهم، التهوين منها على أساس أن الفلسطيني عملاق ويتحمل كل شيء، وهذا تشجيع من بعيد، لأن الذي يكتوي بنار الاحتلال، إنسان نهاية المطاف، ولديه مشاعره، وإن كان يحتسب عند الله.
ما يجري في قطاع غزة، ليس مجرد حرب ضد فصائل، هذه حرب ضد الشعب الفلسطيني، حرب انتقامية، يراد عبرها إعادة ترسيم الجغرافيا السكانية، ضمن مخططات إسرائيلية أبشع وأسوأ لم نرها حتى اليوم، وعلينا أن نفتح عيوننا عليها جيدا، وأن نستعد لما سنراه عمّا قريب.