في عودة سريعة لقراءة المحيط العربي العام في مكوناته وتكويناته الحالية، التي لم تستقر بعد بفعل المتغيرات التي تشهدها منطقتنا العربية، وهي التي تضعنا في خانة الخديعة والسطحية بالاعتقاد إنها تزامنت مع الثورات أو ما يطلق عليه( الربيع العربي)، بل هي متغيرات متشابكة، متواصلة الحلقات، متصلة تسير وفق آليات وخطط ضمن منهجية محددة ومدبرة، ومخططة، ما يؤكده الفعل التاريخي بحركته وتواصله، ومنتجاته. فإن سلمنا بأن التاريخ لا يعيد إنتاج نفسه، يمكننا التسليم بأن إعادة الإنتاج تأتي في سياق إعادة الصياغات للسبُل والأدوات، والوسائل، والترويج، أي؛ إعادة صياغة الشكل للمنتج ليتناسب وذوق المستهلك بكل مرحلة من المراحل، وهو ما يتفق مع علم التسويق، والترويج، حيث أن الخط الإنتاجي يتوافق وذوق المستهلك. وبما أن أذواق المستهلكين تتغير وفق ما يطرأ من تقدم على السوق وآلياته، فلا بد مِن إعادة صياغة الغلاف، والشكل العام للمنتج بما يتوافق وهذا التقدم، وهذا التغير الفاعل في المنطقة العربية على وجه الخصوص، وهنا يتبادر للذهن سؤال هام وربما يتأتى في سياق الفكرة العامة، لماذا منطقتنا العربية؟!
شهدت أوروبا ثورة علمية انتشلتها من عصر الجهل وسيطرة الكنيسة الدينية، وبدأت المجتمعات الأوروبية تقود الثورة العلمية الكبرى للتحرر من السيطرة التجهيلية، والظلام، وهو ما نجحت فيه من خلال تحرير العقول قبل تحرير الأرض، والماديات، واستطاعت أن تحرر الوعي ومن ثم تؤسس قواعد التقدم والتطور وتتجه لتصدير تجربتها الظلامية التجهيلية لمجتمعات أخرى تعتبر هدفًا جيوسياسيًا لأطماع القوى الوليدة من هذا التحرر، وبما أن منطقتنا العربية من أهم المناطق الجغرافية والسياسية والاقتصادية التي تجذب أنظار أي قوة استعمارية لما تتمتع به من تنوع جغرافي يمنحها السيطرة على المنافذ البحرية والبرية التي تربط قارات العالم، وكذلك يمنحها التنوع الجغرافي والتضاريسي الذي أكسبها مميزات اقتصادية زراعية – صناعية يمكنها من تحقيق تكامل اقتصادي ببقعة جغرافية تكاد تكون متصلة الأطراف والمرامي من غربها لشرقها، وجنوبها لشمالها، إضافة للعوامل السياسية الحيوية والإستراتيجية التي تمثلها المنطقة العربية، وهي الأهمية التي وضعتها منذ قديم الأزل في منظار القوى الاستعمارية القديمة والحديثة، ما يتناغم كذلك مع الأهمية الدينية للمنطقة كمهبط للديانات ومستقر للأنبياء، ومنبع للحضارات.
هذه الإطلالة الخاطفة والسريعة تبين وتوضح أهمية السيطرة على المنطقة العربية، سواء سيطرة مباشرة أو غير مباشرة، مما يؤكد لقارئ المتغيرات أن التأثر المحيطي العربي لم يشهد مرحلة استقرار ما بِفعل هذه المميزات، وهذه الأهمية الجغرافية – الاقتصادية – السياسية، فكانت حالة الصراع دائمة ومستمرة وتتخذ ملامح وأشكال وآليات، وأدوات تتوافق وكل مرحلة مِن المراحل، وفق ما يؤكد علم التخطيط الاستراتيجي، من منظوره الاجتماعي وقراءته لحركة الوعي وتطور المجتمعات.
بعد مراحل السيطرة الاستعمارية المباشرة، وبدء تمرد الشعوب على هذه الأشكال التقليدية من الاستعمار الذي استطاعت الامبراطورية العثمانية كسره على قاعدة( الخلافة الإسلامية)، بدأت قوى الاستعمار تبحث عن صياغات متجددة لفرض سطوتها على شعوب المنطقة، فوجدت في رزنامة التخطيط السياسي الاستراتيجي، شكلين غير مباشرين للسيطرة على المنطقة، هما:
1. تقسيم منطقة الجزيرة العربية لإمارات صغيرة على رأسها شيوخ ومشايخ في حالة صرع دائم يتخذ ملامح البداوة المتوافقة مع طبيعة الصحراء والمنطقة، والعادات والتقاليد العربية المستوحاه من أصالة وتراث البيئة الرعوية.
2. فرض سياسية الإنتدابات التي وُجدت كمدخل شكلي يهدف لإعادة تأهيل المنطقة وشعوبها، لكي تستيطع حكم ذاتها بما إنها بالعرف الاستعماري، شعوب غير مؤهلة لقيادة ذاتها.
أي أن الشعوب العربية صاحبة التاريخ والعراقة، والآصالة، والحضارات الممتدة عبّر التاريخ القديم والحديث، لا تتمتع بالأهلية وتحتاج أن تؤهل من المجتمعات والقوى الأوروبية صاحبة عصر الظلام والجهل، وهو ما يُفسر الفرق بين ثورات الوعي من جهة، وثورات الفعل غير الواعي من جهة أخرى.
استطاعت أوروبا فرض حالة معينة من الفهم الاستعماري باسم( الانتدابات) لكي تفرض أشكالًا معينة من الاستعمار المستحدث، وهو ما نجحت في إقناع شعوب المنطقة به، ولو بشكله المؤقت، وهي تُدرك حالة النهضة القومية التي تجتاح المنطقة، ولذلك أدركت ضرورات البحث عن صياغات معينة للسيطرة غير المباشرة، ووضعت نصب أعينها مدخلين لذلك، يتمثلان بالتالي:
أولًا: العمل على إضعاف شعوب المنطقة، وتفكيكها من خلال تقسيم وتجزيء شعوبها تحت أُمرة دويلات صغيرة، لا تمتلك أي مقومات نهضوية مستقبلية.
ثانيًا: غَرس جسد غريب في المنطقة يحقق هدفان؛ أولهما: تحقيق أطماع الحركة الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود تُكفر به أوروبا عما يسمى محارقها ضد اليهود، ويكون بعيدًا عن أوروبا جغرافيًا، وثانيهما: السيطرة على المنطقة من خلال هذا الكيان الوظيفي المصطنع.
بذلك استطاعت قوى الاستعمار أن تؤمن سيطرتها على إحداثيات المنطقة المستقبلية، من خلال تقييد وتحجيم شعوب المنطقة بنقلها من طور القومية الوحدوية إلى القطرية سجينة الحدود بأنظمة مقيدة بمعاهدات وقيود خانقة، تضمن تبعيتها، وهو ما عبَّر عنه انحصار الأنظمة القومية وتلاشيها رويدًا رويدًا بفعل الأداء الممنهج لدويلة إسرائيل التي غُرست في الجسد العربي كعضو دخيل يمارس تأثيراته السياسية والعسكرية، والاقتصادية المدعومة من القوى الحاضنة، والراعية سواء قوى الاستعمار السابقة للحرب العالمية الثانية( بريطانيا وفرنسا)، أو القوى اللاحقة للحرب العالمية الثانية (الولايات المتحدة الأمريكية)، وهو ما يؤكد الحرص الدائم لهذه القوى بدءًا من وعد نابليون بونابرت لمنح اليهود وطن في فلسطين، ومن ثم بلفور سنة 1917م الذي جعل من الوعد فعلًا يترجم على الأرض من خلال مرحلة الانتداب التي كانت تستهدف القضاء على مجتمع منظم وفاعل، وإحلال مجتمع آخر مشتت لا هوية له.
إذن فالقراءات التاريخية للحالة المحيطية العربية وإن اختلفت فيما بينها بالشكل والأسلوب إلاّ إنها تتفق بالمضمون والحدود الجوهرية لإحداثيات حالة أللاستقرار المفروضة على المنطقة، وصولًا إلى إختلاق إصطناع الأدوات التي يمكن لها أن تفرض جذوتها، وهو ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية بعد إنتهاء الحرب الباردة مع الإتحاد السوفيتي، وفشل إسرائيل في رسم السياسات الإستراتيجية بالفعل العسكري الذي وجد تصدي ومواجهة شعبية ورسمية من العالمين الإسلامي والعربي، وعنفوان جماعي برفض هذا الجسد فآلت الأمور للبحث عن مدخلات أخرى تُحدث فعلًا حقيقيًا، وتُرسم مشهدًا مغايرًا للمشهد التقليدي، غير المستوعب من الشعوب التي أدركت أن الأنظمة القائمة ما هي سوى أنظمة وظيفية تتضطلع بمهام محددة وهو ما يمكن إطلاق عليه ( السيطرة والإحتواء)، الذي بدأ يسقط بعد إقدام الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال العراق، والمقاومة الشعبية التي واجهتها لهذه السياسات التي بدأت تتمحور في رفض مشوب بنوع من الوعي لبدء إسرائيل والحركة الصهيونية بتشكيل اقتحامًا للواقع المجتمعي من خلال تبني أساليب مغايرة لمفهوم إسرائيل الكبرى الذي كانت كل المحاولات تتخذ الشكل العسكري القائم على استراتيجية (أرض أكثر أمن أكثر)، وبدا يتمحور حول تأمين الفعل السياسي عبَّر معاهدات سلام مع دول عربية محورية أهمها مصر، ومن ثم الأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومعاهدات تجارية واقتصادية كما الحال مع قطر والمغرب، وتطبيع ثقافي بدأ يتغلغل في العديد من المجتمعات العربية التي أضحت تميل للقطرية والإنحصّار، والإنعزال عن واقعها القومي الممتد عبَّر الترابط العرقي والديني، وتشكيل حالات تربص وصراعات خفية تتفجر مع بعض الأحداث الهامشية، لكنها أكثر عمق عند دراستها بعمق يستند لفهم الاستراتيجية المستقبلية للحالة الاستعمارية الثقافية، التي أدركتها الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأت تتجه إلى حيز أو ركن آخر بعد أن حققت أهدافها من الاحتواء الشمولي للأنظمة السيادية التي بسطت سطوتها على المنطقة منذ منتصف القرن الماضي، ولم يعد لها مهام وظيفية جديدة يمكن إحقاقها، فبدأ التوجه لإحتواء على نطاق أوسع ورقعة ديمغرافية أكبر بحدود الإستلاب الطبقي السابقة، ألاّ وهي الرأي العام الشعبي، الذي بدأ يستقبل ذبذبات كانت في القريب تعتبر مرفوضة شكلًا ومضمونًا، ممثلة بالاستعانة بالولايات المتحدة الأمريكية والغرب للتخلص من الأنظمة السائدة، أي إعادة إنتاج للاستعمار بمنحنياته وتعريجاته غير التقليدية المتعارف عليها، وتأكيدًا على الفعل الثقافي الذي غُرس في المنطقة.
هذه الواقعية العامة، وهذا الحراك المحيي العربي المنحصر ببعض الأقطار العربية في مرحلته الحالية التي تعتبر مرحلة أولية بإعادة صياغة المنطقة، هو حراك يتخذ الشكل الثوري المعبِّر عن حالة شعبية تمردت على واقعها الاستبدادي المسيطر طبقيًا، منذ منتصف القرن الماضي، وهو حراك يعبّر عن إرادة جماهيرية تسعى لنيل حريتها، وبناء مستقبلها المحصور حتى راهن اللحظة بنطاقه المحلي – القطري الداخلي، رغم بعض الملامح والرسائل التي تؤكد أن روح التضامن القومي لها حيز من هذا الحراك، إلاّ إنه لم يخرج للفعل في ضوء عدم اتضاح ملامح وأهداف هذا الحراك في مداه الحالي الذي يؤكد أنه لا زال تحت تأثير محركات خارجية تُعيد صياغة الواقع الإقليمي المتشرذم والمتشظي، بين الصراع الدولي والصراع الإقليمي سواء الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وبكل تأكيد الدور الخفي غير المباشر لإسرائيل، وهو ما يثبت مقارعتها للدور الإيراني في المنطقة، وكذلك للدور التركي الذي عبَّر عن استنهاض لقوى سياسية جديدة، هي المحدد الأساسي لقيادة المنطقة مستقبليًا فيما يطلق عليه( الإسلام السياسي).
وباستعراض للمتغيرات في المنطقة، سواء في مصر أو ليبيا أو سوريا يتم قراءة المستقبل، وقراءة التأثير الإسرائيلي على المتغيرات في المنطقة، فهذه الأقطار الثلاثة هي أولويات أساسية بعد العراق لما تمثله من ثقل كقوى إقليمية اقتصادية وسياسية، وكذلك بعد مرحلة تقسيم السودان وغَرس دويلة جديدة لن تكون بأي حال من الأحوال مهامها مغايرة للمهام والدور الإسرائيلي، وربما يكون لها دور مؤثر وحيوي في المنطقة الإفريقية العربية مستقبلًا، كما لإسرائيل دور مؤثر وحيوي في المنطقة الأسيوية العربية حاضرًا ومستقبلًا.
ربما التسلسل المنطقي والقراءة الأكثر نمطية هي استنباط الدور والتأثير الإسرائيلي في الحراك والمتغيرات في منطقتنا العربية ليس بشكلها الحالي، وإنما منذ الثورة العربية الكبرى التي أنتجت أنظمة قومية تم احتوائها بفعل الفِعل الممارس عليها، وما آلت إليه هذه المتغيرات المتوافقة والمتناغمة مع الماضي والحاضر والمستقبل.
سامي الأخرس
العاشر من تشرين ثانِ (نوفمبر) 2011م