وسط المعارك الجارية في قطاع غزة، هناك ملفات غائبة، لا يقف عند تفاصيلها كثيرون، لأن كل الأنظار مصوبة نحو العمليات وتأثيراتها الإنسانية، مع وصول الحرب لليوم 240.
في مسار مواز هناك ملفات لا يثيرها أحد بشكل تفصيلي، وهي ملفات ذات أثر إستراتيجي وليس يوميا، وستترك تأثيرا حادا على الحياة في قطاع غزة، وعلى الغزيين ومتطلبات حياتهم اليوم بعد الحرب الدموية التي يتعرضون لها، دون أن تتوقف إسرائيل عن أفعالها أبدا.
أبرز الملفات الغائبة، الأول ما يتعلق بجهود الإغاثة الإنسانية الحالية، وبعد وقف الحرب، لأن أعمال الإغاثة سوف تكون أكبر بعد وقف الحرب، مع تكشف الدمار، والخسائر والاحتياجات، وستكون ربما أطول عملية إغاثة إنسانية في الحياة البشرية، والملف الثاني ما يتعلق بإعادة الإعمار والكلف والدول الممولة والجهات التي ستتولى إدارة عمليات الإعمار، ووضع كل قطاع بشكل تفصيلي من العقارات المهدومة وصولا إلى المستشفيات المحروقة، والملف الثالث يتعلق بعدم وجود أي تصور نهائي وناجز لما يسمى اليوم التالي للحرب، وهو يوم ينطبق بأثقاله على المجتمع الإسرائيلي أيضا، وليس المجتمع الفلسطيني، والاستحقاقات المختلفة تتنزل على كل أطراف المشهد الحالي الذي نراه يوميا داخل فلسطين التاريخية.
حسنا الذي فعله الأردن الذي أعلن عن مؤتمر دولي للاستجابة الإنسانية الطارئة في غزة، في 11 حزيران الحالي، وسيناقش المؤتمر تحديد الآليات والخطوات الفاعلة للاستجابة، والاحتياجات العملياتية واللوجستية اللازمة في هذا الإطار، والالتزام بتنسيق استجابة موحدة للوضع الإنساني في غزة، خصوصا، مع الممارسات الإسرائيلية القائمة على خنق القطاع واغلاق المعابر، وتجويع الناس، ومنع الخدمات الطبية، ونقص الغذاء والدواء، وتأثيرات الترحيل من موقع إلى آخر، وما يعنيه ذلك من تأثير سيئ مستدام، لم يعد له علاقة أصلا بالحرب على تنظيمات، فنحن أمام حرب على الديموغرافيا الفلسطينية، بهدف إعادة تشكيلها، وترسيمها وفقا لمخططات إسرائيلية تمتد إلى الضفة الغربية والقدس، وفلسطين 1948، وأهمية المؤتمر تكمن في موقعه أولا، هنا في الأردن، وفي التحشيد العربي والدولي والحضور، وفي كونه في المحصلة انعكاسا لوضع مأساوي تسببت به إسرائيل داخل غزة.
الملف الثاني الغائب هنا والذي يجري الحديث عنه بشكل عام دون تفاصيل ودون تصور أولي، يتعلق بإعادة الإعمار، وكلفة إعادة الإعمار هنا تقدر بعشرات المليارات من الدولارات خصوصا أننا أمام قطاع مدمر، بلا مستشفيات ولا مدارس ولا جامعات ولا طرق ولا شبكات مياه ولا كهرباء، وكأننا أمام بناء مدن جديدة للمرة الأولى، والتساؤلات هنا كثيرة، حول إدامة الحياة بعد الحرب، حتى يبدأ الإعمار الذي يحتاج لسنوات طويلة، وهذا يرتبط بالملف الأول، ويؤكد أن جهود الإغاثة ليست مرتبطة باستمرار العمليات العسكرية، بل ستمتد لسنوات طويلة، في ظل اقتصاد مدمر، وغياب كامل للحياة، وحتى الآن لم نسمع من الأميركيين ولا من أي طرف دولي أو عربي مبادرة لإعادة الإعمار، ولو بالخطوط العريضة خصوصا أن إعادة الإعمار سيكون ملفاً سياسياً تتحكم به إسرائيل، من زاوية تفاصيل كثيرة، وسط تكهنات أن إسرائيل ذاتها لا تريد مبادرة لإعادة الإعمار، وترغب ببقاء القطاع مدمرا وبحيث تتحكم برغيف الخبز، وقطرة الماء، وحبة الدواء، في سياق عقاب جماعي مستدام للفلسطينيين.
الملف الثالث يرتبط باليوم التالي للحرب، وكما أسلفت فهو يوم تال للإسرائيليين الذين سيواجهون داخليا استحقاقات سياسية وأمنية متعددة، وإذا كنا نتحدث عن اليوم التالي للحرب بالمفهوم الفلسطيني، فإن مجرد عدم حسم الصورة حول هذا اليوم يعني أن إسرائيل قد تتبنى خيارا مختلفا عن كل الخيارات التي تم الإعلان عنها حول الجهة التي ستحكم القطاع، وقد تميل وفقا لمعلومات متسربة إلى الخروج من القطاع نهاية المطاف، وإغلاقه، وتركه مهدوما، ليتدبر الناس فيه شأنهم، ولتقف مكونات الفلسطينيين في وجه بعضهم البعض في حالة تلاوم حول أسباب الواقع المستجد، وهذا تخطيط قد يتضارب مع اتجاهات الملف الأول والثاني، لكنه نهاية المطاف محتمل، وعلينا أن نستعد لمرحلة الفراغ جيدا.
تركيزنا اليوم ينصب على العمليات اليومية، لكن الخسائر الإستراتيجية والأضرار طويلة المدى المرتبطة بالملفات الثلاث السابقة، توجب إعادة التموضع منذ الآن استعدادا لها بشكل جيد.