مما عرف من أسرار علم النفس تفسير تلك القوة الساحرة التي يحظى به ذلك الانسجام التام بين كلمة وصوت (موسيقى وتوزيع) وأداء جميل، فما بالك إن زاد الحُسن حُسنا بمشهدية أكثر جمالا، جسدتها الأغنية الوطنية الرائعة «أنا من هون» في احتفالات المملكة بعيدنا واحتفالنا بسيدنا، اليوبيل الفضي للعهد العبدليّ الهاشمي الميمون.
على وقع أنغام «أنا من هون» يجدر تذكير النفس بأن الارتكاز ينبغي أن يكون دائما «من هون»، ارتكاز أردني لا مركزية فيه بأي معنى من المعاني التي قد تأخذ على السياسة أو الإدارة أو الاقتصاد أو أي نشاط من نشاطات الدولة. الدولة -ليس وحدها ما توصف بالدولة العميقة- الدولة هي طوق النجاة الذي اهتدى إليه دهاقنة علم الاجتماع السياسي في العالم كله حتى صارت الدولة في النظام العالمي معتمدة كلبِنة بناء، والأهم كحجر أساس بنيان الأوطان، على ألا ينسى الناس، كل الناس، أن البناء لن يتم والخير لن يتمم إلا بحجر التمام، ألا هو إيماننا بخالق الكون سبحانه، بعظمته وجلاله الرحمن الرحيم الذي من غيره لا يكون إلا الضياع فالهلاك، لا قدّر الله.
من فضل الله علينا أن حبانا بقيادة علمتنا عبر تاريخ الإمارة فالمملكة، أن الأردن مقر لا ممر. الأردن كما هو لغة في جذوره العربية العتيقة وعِر تسمى نهر القداسة به لا العكس، فالاسم مضاف ومضاف إليه، نهر الأردن: الأول على عظمته وقداسته ينسب إلى الثاني بطهر أرضه ونبل أهله، وحكمتهم وذكائهم وأجدادهم الأنباط هم من حفروا الصخر في أعجوبة من أعاجيب الدنيا البترا، لا بصخورها الوردية ولا بتصاميمها الجمالية وزخارفها النورانية، بل بذلك الماء الصافي العذب الرقراق الذي انساب في شبكة صخرية قبل قرون من معرفة البشرية لأقنية وشبكات المياه التي تديرها هيئة قطاع عام أو شركة قطاع خاص.
ومن هنا -»من هون»- أحببت تكريس هذه المقالة للحائرين وأحيانا الغاضبين وفي بعض الحالات المتطيرين قلقا أو خوفا من رحيل شخص أو حزب وقدوم بديل فيما تؤكده عبر التاريخ سنن الخلق وقوانين الديموقراطية والحداثة بما فيها غير الديموقراطية. فما بال بعض القوم يستشيطون هلعا ويرعدون ويزبدون من توجيه سهام نقدهم وجام غضبهم على ما صنفوه يمينا متطرفا، فرنسيا كان أم أمريكيا؟
هو اليمين فقط وإن كان لا بد من إضافة فاليمين المحافظ أو المتشدد. ومن المقبول من باب القياس اعتباره يمينا متطرفا فقط إن اعترفنا بحجم الدمار الذي أحدثه اليسار الأكثر تطرفا والأشرس والأحطّ تغوّلا على كل ما نؤمن به من قيم روحية وأخلاقية. المتطرف هو الذي لا يسمح مقام المنبر واحترام قدر الأخوات والإخوة القراء الكرام من ذكره، من ممارسات يندى لها الجبين وتقضّ مضاجع الآباء وأولياء الله التابعين أو الصالحين في الأديان كلها، بما فيها غير السماوية.
ما شهدته أمريكا وأوروبا في العقد الأخير جنون غير مسبوق في الميادين الاجتماعية على نحو الخصوص، خاصة بعد تكشف الأبعاد السياسية والاقتصادية والاستهلاكية وحتى الصحية لما يسعى إلى تحقيقه تيار العولمة «اليسارية». التوحش لم يعد سمة إرهابيين كداعش وأخوات تنظيمها الأم المعروف للجميع ولو أنكر البعض معرفته سرا أو حرجا، أو اتقاء لشرور ذلك التنظيم الآثم الأثيم.
عودة اليمين بعنفوان إلى أوروبا، ردة فعل تحدثت عنها وغيري كثيرون منذ سنوات. معروف مدى تأثر أوروبا بأمريكا والعالم كله من بعد، وعليه فإن المرعوبين من اليمين عليهم أن يعيدوا تقييم الأمور «من هون»، فبذلك مصلحة وطنية وقومية وإنسانية، العودة إلى مفاهيم الدولة، الوطن، القانون. العودة إلى احترام الحدود الجغرافية، إلى شعار: وطني أولا، و الرجوع إلى أولوية الإيمان في حياتنا بالله والوطن والأسرة السوية، إلى أن يكون الإنسان السوي البعيد عن عبث الهويات بأنواعها أوّابا، بعيدا عن دكاكين ما سمي بالمجتمع المفتوح والمنظمات غير الحكومية الأهلية وغير الربحية! فقد اتضحت ثمار أعمال كثير منها، خاصة تلك المرتبطة بالملياردير جورج سوروس.
اللهم عودة إلى الأسرة النووية والممتدة، وأعظم ما لدينا من قوى ناعمة وخشنة هو العشائر الأحرار الأصائل، قوى نواجه بها أعداء الداخل والخارج. هذا هو اليمين، كما يفهمه أهل اليمين.
«من هون»، نقطة ارتكاز فهمنا وبوصلتنا ينبغي أن يكون لسان حالها «أنا من هون».. أرى اليمين يمينا كما أريد من أهل اليمين، ولا أرى في اليسار إلا يُسرا على الناس كل الناس، لا معاول هدم بل مداميك بناء..