المسجد الأقصى في القدس، ليس فلسطينيا بالمعنى الحرفي، وإذا كان المسجد في فلسطين، وجواره فلسطينيا، فهذا لا يعفي ملياري عربي ومسلم من مهمة الدفاع عنه، ولا تحت أي عنوان هذه الأيام، فهو أمانة في أعناق الجميع، سوف يحاسب عليها من يتغافل ويتعامى.
مليار عربي ومسلم يتمنون الصلاة فيه، لكنهم في الوقت ذاته يسترخون في بيوتهم باعتبار أن مهمة الدفاع عنه موكولة بمن يعيشون في البلدة القديمة في القدس، أو كل مدينة القدس، أو بقية أهل فلسطين، ومن المثير هنا أن لا شيء يثير غضب العرب والمسلمين في غالبيتهم، لا الدم المسفوك ولا "وديعة النبي" صلى الله عليه وسلم، أي المسجد الأقصى، وهم حقا مثل غثاء السيل بلا فائدة، يبما يحولنا إلى أمة صوتية بامتياز في هذا الزمن الصعب جدا.
يوم أمس اقتحم المئات المسجد الأقصى مجددا، ومنذ بداية العام الجاري اقتحم أكثر من 25 ألف إسرائيلي المسجد الأقصى، أي خلال ستة أشهر، والبعض لا يلتفت لقصة المسجد الأقصى، ويقول لك هذا مجرد مبنى حجري سيتم بناءه من جديد حتى لو هدمته إسرائيل، لأن البناء مر في مراحل مختلفة، والقيمة ليست للحجارة، وهذا الرأي المتخاذل يعبر عن جهل شديد، وعن رغبة بالتخلي عن مسؤولية المسجد، بما يعنيه من قيمة أساسية، ومن كونه " وديعة النبي" صلى الله عليه وسلم، التي تتعرض للتهديد والحرق وإطلاق النار والاقتحامات كل يوم.
هذه الأمة لا هي قادرة على دعم المقدسيين كما يجب، ولا هي قادرة على الالتفاف على الموانع الإسرائيلية لدعم القدس، ولا هي تفعل شيئا لحماية المسجد، وهي أيضا تساعد في تكريس الواقع الحالي، أي أنه يقال للفلسطينيين اذهبوا وصلوا وعودوا إلى بيوتكم، ولا تعترضوا على إسرائيل، ولا تتسببوا بفوضى أمنية داخل الحرم القدسي، بما يأخذنا فعليا إلى تكريس السيادة الإسرائيلية على الحرم القدسي، وتعزيز التقاسم الزمني، وصولا إلى التقاسم الجغرافي لمنطقة الحرم كلها.
الذي يريد أن يتخلى عن دوره في ملف المسجد الأقصى، يفعل ذلك من باب التغافل والتناسي، أو حتى البحث عن ذرائع عبر أبواب مختلفة، من بينها أن إسرائيل تتحكم في كل شيء، وإذا كانت " وديعة النبي" صلى الله عليه وسلم، لا تثير الغيرة ولا الغضب ولا القلق، ولا الشعور بالمسؤولية، فما هو الأمر الذي سيثير الغيرة هنا، خصوصا، وأننا نرى جميعنا أصبحنا بمن فيهم كاتب هذه السطور، مجرد أمة تبكي على حاضرها، بسبب كل ما نراه في كل دول المشرق العربي، وبقية المنطقة العربية والإسلامية التي تعاني أصلا من كوارث مختلفة.
علينا أن نلاحظ أن جرأة الإسرائيليين على المسجد الأقصى ارتفعت بعد حرب غزة، من باب الثأر والانتقام والتحدي، ووزارء الاحتلال يدخلون الحرم كل فترة، بحماية الجيش والأمن الإسرائيلي، فيما الأهم يرتبط بنقطتين، الأولى التدرج المتواصل في فرض السيادة الإسرائيلية على الحرم القدسي، بما في ذلك المسجد الأقصى، والثانية التوطئة لهدم أحد المسجدين داخل الحرم القدسي، القبلي وقبة الصخرة، والسطو على الأرض الفارغة داخل الحرم القدسي.
هكذا إذا تنجرف كل الدنيا نحو منحنيات خطيرة، وتضيع التحذيرات التي تتدفق من القدس، التي يعاني أهلها من الملاحقة الأمنية والترصد والتعذيب والاعتقال والتجويع في سياقات إذلال كل هؤلاء ولا يسمعون سوى أصوات المتذاكين حين يقولون لماذا لا يهب أهل القدس هبة رجل واحد ضد إسرائيل، وهو سؤال قابل أيضا لعكس بوصلته بحيث يكون لأمة العرب والمسلمين، عبر سؤالهم لماذا لاتهبون هبة رجل واحد للدفاع عن "وديعة النبي"، قبل أن تكون مسجدا فلسطينيا خالصا وفقا لوجهات نظركم الفذة، التي تجد كل مرة مسارب سوداء للتدفق علينا.
"وديعة النبي" ذروة الصراع السياسي وتعريف الهويات داخل فلسطين، بما يعنيه ذلك من معنى على مستوى أمة بأكملها، وعلى مستوى منطقة عربية تتعرض إلى أخطر السيناريوهات.