يتندّر بعض السوداويين عند سرد لائحة شكواهم المطوّلة قائلين: اللهم هجرة! لطالما أجبت من يسمح المقام بيننا بفرد بساط أحمدي: اللهم آمين. أتبع هؤلاء المتذمرين المستظرفين باشتراط تحفظي، وهو أن تكون هجرة حقيقية وافية، لا تقتصر على مكان أو زمان.
احتفلنا بالأمس بمرور سنة هجرية جديدة، أي بعبورنا عاما جديدا، احتسبناه هجريا أم ميلاديا، غريغوريا أم يوليانيا، في سنة كبيسة أم غيرها، هي نحو ثلاثمئة وخمسة وستين يوما، كل يوم منها فيه طالع شمس يوم جديد، يؤذن للبشر بالاستبشار بطلوع نهار جديد، ويؤّّذن بالناس فجرا بأن «حيّ على الفلاح».
الهجرة عام كامل قمريا كان أم شمسيا، هكذا في علم الفلك والحساب، لكنها في ميزانه الرباني سبحانه اختيار وقرار، ومن قبل عهد ووعد، بين الخالق والمخلوق. هذا الخلق لا يعرف السكون، وإن بدا كذلك فهو في حالة حركة دائبة في مسارات لا تقتصر على بلادنا ولا إقليمنا ولا قارتنا ولا قريتنا العالمية الصغيرة، إنها حراك كوني وفق ناموس رباني، أراده سبحانه بحسب ما ورد في جميع الديانات التوحيدية ضامنا لحرية الاختيار من جهة، ومضبوط الإرادات من جهة أخرى، من لدنه وحده سبحانه «ضابط الكل» وفق الكتاب المقدس، و»المهيمن» و»المسيطر»، كما جاء في القرآن الكريم. الضبط والسيطرة والهيمنة لم تفقدنا أبدا كبشر -وقد تساوى الكل في ذلك بمن فيهم الأنبياء والأشقياء- لم تفقدنا القدرة على الاختيار ومن ثم اتخاذ القرار، كلنا أحرار وكلنا مسؤولون مساءلون..
إن كان الاضطهاد بأشكاله الذي فاق الحدود بمعايير الزمان والمكان قبل 1446 سنة قد سبق الهجرة النبوية، فإن الهجرة تبعها عبور والذي لم يكن مجرد قطع المسافة الجغرافية أو الزمنية بين مكة المكرمة والمدينة المنورة. كذلك كان العبور لدى أبناء العم والأخوة اليهود والمسيحيين المنحدرين معنا عرقيا وروحيا من شجرة مباركة واحدة. ما كان يعني عبور البحر الأحمر أو نهر الأردن المقدس، بقدر ما كانت هجرة وكان عبورا من حال إلى حال، غير الحال.. إن كان الحال الأول ليس بأيدينا، فالثاني نحن المسؤولون عنه، نصنع حاضرنا ونعد لمستقبلنا بأيدينا ولا نلوم في ذلك إلا أنفسنا.
كتبت وتحدثت من منابر عدة بينها الأكاديمي ومعظمها الإعلامي عن قضايا محاربة خطاب الكراهية والتطرف والعنف والإرهاب المرتبطة بملفات الهجرة القانونية وغير القانونية، وكذلك الإقامة والعمل والتجنيس في الشرق الأوسط وفي الغرب -تحديدا بريطانيا وأمريكا- وما زالت الأحداث تؤكد ارتباط قرار الهجرة بما هو أكبر مما يشكو منه بعض الناس تأففا وتذمرا، وأحيانا نزقا وبطرا. صار الخلط كبيرا ومريبا بين ضرورات الهجرة طلبا للنجاة بالإيمان والعرض والروح، وبين خيارات العيش الأفضل في بلاد محددة (بريطانيا نعم بالنسبة لطالب لجوء من دول شرق أوسطية، أما رواندا مثلا فلا و ألف لا) وقد أقفل الملف برمته رئيس وزراء بريطانيا الجديد السير كيير ستارمر فور استلامه الحكم خلفا لريشي سوناك. ولا ضير إطلاقا في السعي إلى تحسين الظروف الخاصة للفرد أو الأسرة، في ذلك ما دامت الأمور بعيدة وبريئة من أي اعتبارات تخل مثلا بالاستقرار الديموغرافي أو الاجتماعي-الاقتصادي أو الروحي الثقافي للبلد المستهدف بالهجرة أو الإقامة المطولة لأي سبب كان.
«يا غريب كن أديب» (أديبا لغويا لكنه السجع في الأمثال الشعبية). ليت المناسبات الوطنية والدينية تأخذ حقها من التنوير خاصة في منصات التواصل الاجتماعي، نغرف من معينها فتحدث عصفا فكريا -ينفع الناس فيمكث في الأرض- في برامجنا الحوارية، الخالية من المقاطعة والمصايحة- بدلا من الغوص في أسباب فوز ماري لوبان في فرنسا ومسعود بازشكيان في إيران!