لا يطمئنُ أبدا طغيان الصورة على السردية، خاصة إن صنعتها صور فوتوغرافية التقطت خلسة أو فيديوهات تم التلاعب بها مونتاجا أو دوبلاجا في ليل، أو هتافات تُقرأ من هواتف جوّالة نقّالة!
مقلق أيضا وخطير جدا أن يعلو صوت الساحات والأزقة والدهاليز على ما يظن ساكنو الأبراج العاجية أنه قابل للضبط والسيطرة عبر مقالة أو ندوة أو حتى خلوة، فبعض ما يدمره صناع الأكاذيب من محترفي الأضاليل كما النار ينتشر في الهشيم ولطالما حذرنا الكبار من الاستخفاف أو الغفلة عن مستصغر الشرر.
رغم إدانتنا بلا تحفظ على الحجر على الآراء والأفكار بصرف النظر عن أصحابها شرفاء كانوا أم دخلاء أشرار، فإن من الاستهتار والانتحار أن يتم الاستخفاف بالزن الذي هو أمرّ من السحر. ما عادت تلك المنشورات الصفراء التي تداولها البعض خلسة في حقب ولّت، بل صارت بعض المحتويات الالكترونية العنكبوتية تفعل أفاعيل «مانيفستو» وإن كان كل ما فيه لا يصلح نصا هزيلا لطقطوقة! بعيدا عنا أشير إلى ما شهدته ضفتا الأطلسي قبل أيام.
لافت، مقلق وصادم أن تخلوا احتفالات أي انتخابات في أي بلاد من أعلامها، أعلامها الوطنية حتى وإن كانت حزبية، ما دامت ما زالت وطنية غير عابرة للحدود والقارات. أفهم جيدا أن يعتز مواطنون مهاجرون -بشكل قانوني أو غير قانوني- من الجيل الأول أو حتى الثاني ببلادهم الأصلية، الوطن الأم. أتفهّم أكثر، كراهية وتوجّس ورعب الأكثر تطرفا لخصمه الأكثر تطرفا، لكني أحار في سذاجة من حالهم كما كان في «شاهد ما شافش حاجة» أو «حافظ مش فاهم» يظنون الديموقراطية اقتراعا في صناديق ولجانا انتخابية، والتعددية عدّ أصوات، والأمن والأمان، ضرائب منخفضة وتأمينات اجتماعية سخية، والسلام، سلامة من الترحيل أو الاضطهاد قصير المدى!
من حباه الله ببُعد نظر، أو النظر تحت أنفه كأضعف الإيمان، يعلم يقينا أن كثيرا من الصور الاحتفالية في عدد من الساحات الانتخابية في أوروبا وأمريكا ما هي إلا نجاح أكبر ومؤجل لأقصى اليمين الذين يدعون محاربته!
ماذا يعني خلوّ مناسبة وطنية كالانتخابات من علم واحد -ولو على استحياء- للبلاد التي جرت فيها الانتخابات؟ ماذا يعني في الضفة الغربية للأطلسي أن ترفع في منهاتن راية حزب الله اللبناني الصفراء وصورة كبيرة تغطي واجهة متحف في بروكلين لخامنئي، بعد أيام عصيبة شهدتها جامعة كولومبيا التي فتحت أبوابها لتعليم طلبة وتدريب ناشطين من الشرق الأوسط على «المجتمع المفتوح»، والتعددية التي تحوي وتحتوي الجميع بمن فيهم وفيهن ذوو الرايات الملونة، وأحجم عن التفاصيل احتراما لمقام القراء الكرام والمنبر الكريم.
إن كانت الفضائيات قد فرضت عليها الساحات تصوير الحدث، وفي حالات كثيرة في بث حي ومباشر يزيد -مع تعليق ضيوف يتم اختيارهم بما يتماهى مع السردية- يزيد من سخونة الرؤوس الحامية والأنوف المتورمة انتفاخا بأوهام تفرضها نشوة افتراضية يلعب فيه الصوت والصورة في الوجدان وتتلاعب بالعقول كما تريد أصلا، أو تُوظف لاحقا منصات التواصل الاجتماعي التي بدورها لها جيوشها وذبابها ودبابيرها الالكترونية في لوغاريتمات مصمم ومفصل على نحو مدروس، يناسب كل من كان له «جسما لبّيسا» كما يقال العامية!
من الانتحار لا العبث فقط، البقاء مكتوفي الأيدي أمام تلك العولمة التي تحالف فيها أقصى اليمين مع أقصى اليسار على حساب حرمة الأوطان وسيادة الضمائر والعقول الواعية المفترضة في الناخبين والمنتخبين (ثمانية عشر عاما فما فوق) وهم في هذا الزمان غير حالهم في زمان مضى.
ما يجري يقترب حثيثا من مهاوي الفوضى وما هي بخلاقة.. ليس صحيحا ولا بريئا منطق استيعاب توالي الموجات، هذه حمراء (يمين) وتلك زرقاء (يسار)، فثمة ألوان وأطياف دخلت على الساحة في العقدين الأخيرين، لا تظهرها بعض القنوات مراعاة لمشاعر مالكي رأس المال الإعلامي أو الإعلاني، أو الجمهور «اللي عايز كدة»! إن سكتنا كمتلقّين وحتى كمراقبين على هذه الحال، لن تكون موجات معاكسة هنا وهناك من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بل تسونامي له هزاته الارتدادية التي قد يأخذ مداها عقدا أو قرنا ويزيد. فلينظر كل منا بأمانة، أي مستقبل يرتضيه لأحفاده، لأبنائه أو لشيخوخته «كبرته»؟ فمعظم أولئك لا يرحمون صغيرا ولا يوقّرون كبيرا.. دقق مليا في شعاراتهم وسنحهم وملابسهم (أزيائهم) وشعورهم وسلوكياتهم -أعجبتهم نتائج الانتخابات أم أغاظتهم أو لم تشف غليلهم- لا ترى إلا ممارسات عنيفة يلومون جهات إنفاذ القانون لاحقا -بعد أن يطفح الكيل- يلومونها على استرداد النظام العام والقانون، بتهمة الإفراط في استخدام القوة، أو -وهذه حتمية- تعبيد الطريق وفرد السجاد الأحمر لعودة مظفرة لليمين، وهي قاب قوسين أو أدنى في فرنسا وأمريكا وأيقونتها هدية التحرير من النازية، تمثال الحرية في جزيرة إيليس في مدينة نيويورك، ورمزها التفاحة الحمراء.. علها تنجو من أيدي اليسار المنحل المختل الذي لم يكتف بقضمها بل يمعن في تلوينها!