ثنائية "المقاطعة أم المشاركة" ليست جديدة على المشهد الانتخابي، ففي كل دورة هناك من يدعو للمقاطعة لأسباب أيديولوجية أو سياسية، وآخر يدعو للمشاركة من باب الواقعية أو الممكن في العمل السياسي.
الجديد فعلا هو أن القضايا التي تخلق هذه الثنائية قد ازدادت تعقيدا، فما كنا نختلف عليه في الماضي يشبه النكتة مقارنة مع ما نشتبك من أجله اليوم، في ظل وضع إقليمي ومحلي استثنائي، الأمر الذي قد يخرج هذه الثنائية من بعدها السياسي ويسقط عليها بعدا أخلاقيا متعلقا بالمشاركة من عدمها!
فدعاة المشاركة يحملون دعاة المقاطعة مسؤولية "إمكانية" صعود تيارات برلمانية لا تمثل الناس لأنها جاءت بنسب مشاركة متدنية، الأمر الذي يترك الباب مواربا للحكومات للإمعان بتبني سياسات غير مرضية. ويبرر هذا الفريق مشاركته بأن العمل السياسي السلمي لا يوجد أمامه سوى طريق واحد؛ الاشتباك مع الدولة ومؤسساتها وتداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع.
أما دعاة المقاطعة فيحملون دعاة المشاركة مسؤولية "شرعنة" الوضع القائم والانحدار العام في المشهد السياسي، الناتج عن الأداء المتردي للنخب السياسية والبرلمانية في السنوات الأخيرة، ومن أهم مظاهر هذا التردي، تحول دور البرلماني من قائد سياسي لمختار ضيعة. ويرى دعاة المقاطعة أن الوعود التي قطعتها لجنة تحديث المنظومة السياسية، لضمان وحماية العمل السياسي الحر، ذهبت في مهب الريح مع قانون الجرائم الإلكترونية واستمرار الاعتقالات لغاية اللحظة، مما جذر قناعتهم بعبثية المشاركة.
وحتى نتجاوز حدة هذه الثنائية، لا بد من مشروع سياسي يعيد إنتاج حركة وطنية حقيقة -وليست مهجنة- من مختلف الأطياف السياسية، ترتقي لمستوى التحديات التي تواجه بلدنا وتتناسب مع خطورة المرحلة وحساسياتها.
في هذا المشروع لا بد من إعادة تعريف مفهوم "السياسة" لنقلها من المفهوم التقليدي " المحاصصة وصراع النفوذ" للمفهوم المعاصر" إدارة الشأن العام" الذي برع في وصفه استاذي الدكتور أنطوان مسرة عندما قال "إذا ما أردنا تحقيق التغيير لا بد من العمل على المستوى المحلي، فقد بحثنا تاريخيا بالأمة والدولة والمؤسسة وأهملنا العائلة والحي والشارع والمدرسة والجامعة، فالعمل على المستوى المحلي المصغر هو الذي يحدث تغييرا عميقا في النسيج الاجتماعي"، هذه هي البرامجية بمعناها الواسع.
أما السياسة "صراع النفوذ والمحاصصة" فهي السبب في تسييس قضايا الحياة اليومية وتعطيل حياة الناس لعدم قدرتهم على العمل المشترك بسبب هذه التحزبات، الأمر الذي يضر بالنسيج المجتمعي ويفقد قدرة المجتمع على أن يكون حاضنة لحركاته وأحزابه وحاملا لقضاياه الوطنية.
يحتاج هذا المشروع أيضا لإعادة انتاج النخب السياسية، وبشكل طبيعي "غير مهجن" عندما تعزز العلاقة بين الدولة من جهة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والجامعات والمراكز البحثية من جهة أخرى، والعمل على معالجة مسألة غياب الثقة بين هذه الأطراف، عن طريق ضمان الدولة للحريات دون ممارسة أي تضييق، وإعادة ترتيب الأحزاب والمجتمع المدني لأولوياتهم الوطنية واستمرار العمل على تعزيز استقلاليتهم.
وتكتمل الخطوط العريضة لهذا المشروع بالعمل على التكامل بين الوطني والمحلي فلا يجوز مواصلة القطع بين المركز والأطراف وعمان والمحافظات بشكل يعزز من الصراع الهوياتي والمزاحمة على المكتسبات بشكل لا يتناسب مع الدولة وإمكانياتها وقدراتها.
بالمحصلة، لا يمكن أن تستمر هذه الثنائية بالرفض والقبول والمشاركة والمقاطعة دون الانتقال إلى المستوى الأعلى من العمل السياسي، فمن يقرر المشاركة يقع على عاتقه تجويد العملية، ومن يقرر المقاطعة يقع على عاتقه تقديم البديل، والدولة بأجهزتها ومؤسساتها السياسية والأمنية ضامنة للجميع، أما عن سؤال من أين نبدأ؟ فليبدأ العمل من حيث أمكن!