في منتصف العام 1983، جاء تأسيس مركز الدراسات الإستراتيجية بإرادة ملكية، حاملا آمالا كبيرة بأن يشكل هذا المركز أساسا قويا لميدان الدراسات والاستطلاعات والبحوث؛ محليا وإقليميا وعالميا، وفي جميع القضايا ذات الصبغة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والصحية والتعليمية.
ومنذ انطلاق عمله، لم يدّخر المركز أي جهد في سياق تزويد المهتمين بالمؤشرات المهمّة في المجالات السابقة، فقد منح على الدوام نظرة إجمالية للتحديات الداخلية والخارجية، كما أعطى منظورا لتوجهات الجمهور في القضايا المختلفة. وفي كثير من الحالات، جاءت نتائج استطلاعاته ودراساته خارج إطار التفكير الرسمي لدى الباحث أو صانع القرار، وأحيانا أخرى صادما بعض الشيء، كما في تقرير "معان: أزمة مفتوحة"، والذي حاول الإحاطة بأسباب ظاهرة الاحتجاج العنيف في معان، ليخلص إلى أنها ليست ذات جذر واحد، بل تتداخل فيها العوامل الأمنية بالسياسية بالاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى القيم المراعاة.
شكل هذا التقرير الدراسة الموضوعية الأولى لحالة معان، ما أسهم في تخفيف التوترات في المحافظة، وساهم في تعظيم عناصر التميز فيها، والتخفيف من الاحتقان بين السكان.
تقارير ودراسات عديدة، وضع فيها المركز بصمة واضحة على الحياة العامة في الأردن، وأيضا في الإقليم، خصوصا دراساته حول ظواهر التطرف والإرهاب، والديمقراطية والتعددية والتنمية والبيئة، ما رسّخ من استقلاليته وموضوعيته، وجعله واحدا من مراكز الدراسات المهمة، والمشهود لها بالموضوعية.
لكن، هذا المركز تراجع دوره خلال السنوات القليلة الماضية، وبات غير قادر على مجاراة الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية، خصوصا تلك التي تؤثر بشكل مباشر على الأردن؛ سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا، ويكفي أن نبحث في الدراسات والاستطلاعات التي أجراها المركز في الآونة الأخيرة، لنكتشف أن آخر نشاط له كان قبل أشهر عديدة، وكأنه لا يوجد ما يستدعي منه التشمير عن ساعديه، والعمل في المجال الذي أنشئ من أجله، لكي يزود الباحثين وصنّاع القرار برؤية واضحة حول ما يجري، وما يتوجب عمله في هذا الوقت.
خلال عام كامل يعيش الأردن مجموعة من الأزمات المتلاحقة والمتداخلة، بعضها نواجهه للمرة الأولى، وهي بلا شك تستوجب أن يقدم المركز فيها دراسة لرأي الناس وانطباعاتهم، بهدف تحليلها واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها.
هناك أزمة اقتصادية داخلية، وأخرى في الشحن والتزويد أدت لارتفاع أسعار الغداء عالميا ومحليا، وهناك بطالة مرتفعة، خصوصا بين الشباب والخريجين الجدد مع عدم قدرة الاقتصاد الوطني ذي الحجم المحدود على توليد فرص كافية من العمل، خصوصا مع عدد غير مسبوق من اللاجئين الذين ينافس قسم منهم الأردنيين على بعض فرص العمل تلك.
الانتخابات النيابية ملف آخر مهم، ينبغي أن يشكل مضمارا لدراسات كثيرة، لعلّ أهمها هو معرفة توجهات الناخب الأردني الجديدة، في ظل قانون انتخاب جديد، ومشاركة أحزاب تم تخصيص نسبة من المقاعد لها في المجلس، وعتبة ينبغي تخطيها.
على الصعيد الأمني؛ تبقى معضلة تهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود السورية، واشتراك منظمات إجرامية مدربة وأنظمة وأحزاب ودول فيها، قضية وجودية للأردن، والذي يحاول بكل السبل تحييد هذه المشكلة، أو التخفيف منها ومن آثارها بقدر المستطاع.
وعلى الصعيد السياسي المرتبط بأمن المملكة، ما يزال العدوان على غزة مستمرا، فيما الدول المؤثرة تطرح سيناريوهات عديدة، بعضها يتعارض مع مصلحتنا الوطنية.
لماذا لم ينتبه مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية لكل هذه الملفات، وما الذي ينتظره لكي "يغرّد" بما لديه؟!