بقلم : د. لبيب قمحاوي - "كثرة الضغط تولد الإنفجار" وهكذا كان الوضع الفلسطيني عموماً وفي إقليم غزة على وجه الخصوص عشية السابع من أكتوبر عام 2024 عندما إخترق الفلسطينيون بنجاح كافة خطوط الحماية والدفاع والانذار الألكتروني التي بناها الإحتلال الإسرائيلي على طول الحدود بين إقليم غزة ومستوطنات ومدن غلاف غزة . إن الاجرام والوحشية التي تعاملت بها اسرائيل مع الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر وما زالت قد وَلَّدَت إنفجاراً سياسياً وإنسانياً شعبياً على مستوى العالم لا سيما وأن ارتداداته ما زالت تعصف بالضمير الانساني وبالاستقرار الدولي ، وأصدائه ما زالت تتوالى وتنمو في قوتها و ردود فعلها إلى حدود العاصفة السياسية التي أطاحت بمركز إسرائيل الدولي والأدبي والمعنوي وبالتالي قدرتها على التأثير على شعوب العالم كما كان عليه الحال قبل 7 أكتوبر 2024.
لقد خاضت إسرائيل حربها الخاصة بها ضد الشعب الفلسطيني المحتل والمحاصر في قطاع غزة معتمدة على الدعم التقليدي الأمريكي والغربي الذي مكَّنها دائما من اختراق كافة الممنوعات والمحظورات حسب نصوص القانون الدولي مستندة في ذلك إلى قدراتها الاعلامية على تسويق الأكاذيب الاسرائيلية الصهيونية وتحويل إسرائيل من مُعتٍد ظالم إلى مُعتَدى عليه مظلوماً ومدعوماً بأمريكا والقوى الغربية ، متجاهلة الضمير الانساني وقوة تأثيره على حكومات العالم وردود فعله التي تدفع الآن بقوة في اتجاه رفع الظلم عن الفلسطينيين.
المعركة لن تكون سهلة وأهدافها قد تشكل بداية النهاية للسردية الصهيونية الكاذبة المتعلقة بفلسطين والفلسطينيين ، وبداية البداية للسردية الفلسطينية الجديدة القائمة على تمجيد نهج الكفاح والتضحية والصمود .
الآمال والاحلام الفلسطينية التي كانت تستند تقليدياً إلى الشرعية التاريخية المبنية على الاستعطاف قد انتقلت الآن إلى رؤية جديدة تستند إلى الكفاح والتضحية والصمود على الأرض مهما كان الثمن بإعتبارها المرتكزات الجديدة لإعادة تعريف الشرعية السردية التقليدية التي كثيراً ما تغنَّى بها الفلسطينيون مع أنها توقفت في تلك الأزمان عند حدود المناشدة والاستعطاف السلبي لتتحول الآن إلى تمجيد نهج الكفاح والمطالبة بعودة الحقوق الوطنية لأصحابها الفلسطينيين بإعتبار ذلك الترجمة المقبولة للشرعية التاريخية.
على الفلسطينيين والعرب أن يحذروا مما يجري الآن من مؤامرات تستهدف مستقبل القضية الفلسطينية بشكل جدي ومصيري . ففي ثنايا عمليات القتل الجماعي والدمار الشامل التي يتعرض لها إقليم غزة ، تمت عملية إستيلاء غامضة وشبه كاملة على أراضي الضفة الفلسطينية ، وحصار المدن الكبيرة فيها والعمل على تقطيع أوصالها وتواصلها مع باقي الأراضي الفلسطينية ، وحرمان كل مدينة فلسطينية في الضفة من امتدادها الطبيعي من خلال قطع تواصلها المباشر والطبيعي مع القرى المحيطة بها والمرتبطة معها اقتصادياً وجغرافياً ، وانشاء طرق التفافية قد تسمح بالتواصل وإن كان تواصلاً إلتفافياً معقداً كونها طرقاً بديلةً تخدم أهداف المستوطنين أولاً .
السؤال الأهم الذي يدور حالياً في الأذهان يتعلق فيما إذا كان ما يجري الآن في الضفة الفلسطينية من تغييرات قانونية وإستيطانية مرتبطةً بالحكومة اليمينية الحالية هي تغييرات سياسية مؤقتة مرتبطة بتلك الحكومة حصراً ، أم أنها تعكس سياسات واستراتيجيات عقائدية دائمة وعابرة للحكومات وأن ما يجري من تغييرات وُجِدَ ليبقى كأمر واقع بغض النظر عن طبيعة الحكومة الإسرائيلية القائمة وسياساتها . ومن المهم في هذا السياق التأكيد على أن الخلافات داخل الجسم السياسي الاسرائيلي هي على قضايا لا علاقة لها بما يريده الفلسطينيون أو بما لا يريدونه ، بل بما يريده بعض الإسرائيليون أو بما لا يريدونه . الخلافات إذاً هي على ما يدور داخل المجتمع الإسرائيلي وأولوياته ، وليس على ما يدور داخل المجتمع الفلسطيني ومطالبه .
ما يهم الفلسطينيين معرفته هو مدى إمكانية عكس ما تم إتخاده من إجراآت تهدف إلى ضم الأراضي في الضفة الفلسطينية سرّاً واستثناء السكان من تلك الاجراآت تمهيداً لتغيير وضع الضفة الفلسطينية من كونها أراضٍ محتلة إلى كونها جزأً من "دولة إسرائيل" دون الإعلان عن ذلك رسمياً مما يسمح باستعمار واستيطان الأرض دون السكان مما يعني حرمانهم من حقوق المواطنة المرتبطة قانونياً بذلك الضم . إن ما يجري الآن في الضفة الفلسطينية هي عملية ضم حقيقية للأرض باستثناء السكان .
جذور القضية لا تنحصر في الاحتلال فقط . فجذور الاحتلال الصهيوني لفلسطين باتت معروفة من كل جوانبها . ومحاولات إسرائيل طمس الجذور العربية الفلسطينية لفلسطين باءت بالفشل . المشكلة الآن أصبحت في واقعها تتجسد في إرث هذا الإحتلال والمتمثل بالوجود اليهودي الصهيوني الإسرائيلي على أرض فلسطين ، وإصرار دول وحكومات العالم الغربي وأمريكا على بقاء واستمرار هذا الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين بأي ثمن ، دون أي إعتبار للحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني أو لما يقوله القانون الدولي والمجتمع الدولي وما تنص عليه الشرعة الدولية والقانون الإنساني.
مستقبل الارض الفلسطينية المحتلة ما زال قيد التشكيل بحكم كون القضية الفلسطينية ديناميكية متحركة كونها مرتبطة بأهداف الإحتلال الإسرائيلي وهي أهداف متحركة ومتغيرة تطمع دائماً إلى المزيد من المكاسب على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه. ومع أن العداء للإحتلال الإسرائيلي ثابت ، إلا أن طرق التعامل معه تبقى متحركة كونها تهدف إما إلى منع تفاقم الأذى أو إلى الإستجابة المتجددة والمتواصلة لتحديات برامج الإحتلال المعلنة منها والخفية .
ما يجري الآن من عدوان وحشي على إقليم غزة الفلسطيني وعلى الضفة الفلسطينية المحتلة يهدف إلى فرض واقع جديد على كلا المنطقتين كإنعكاس لمحاولات إسرائيل البائسة لتحقيق اهدافها المنشودة من خلال حروب سياسية على الفلسطينيين بعد فشل الحروب العسكرية في تحقيق تلك الأهداف . إن استغلال المذابح الاسرائيلية في إقليم غزة لتمرير وفرض واقع جديد على الضفة الفلسطينية يعكس خبثاً إسرائيلياً واضحاً في استغلال الدم الفلسطيني الجاري في إقليم غزة للتمويه والتغطية على ما يجري في مناطق أخرى في فلسطين خصوصاً في الضفة الفلسطينية دون أي إعتبار للمآسي التي يعيشها الفلسطينيين في فلسطين بشكل عام .
لقد أدَّت الحرب الإسرائيلية على إقليم غزة وعلى الضفة الفلسطينية إلى العديد من التغييرات لعل أهمها إنهيار المنظومة الأخلاقية في إسرائيل والتي غالباً ما استعملتها السردية الإسرائيلية لتسويق الادعاآت الإسرائيلية الكاذبة بأنها دولة ديموقراطية ملتزمة بالقانون الدولي والانساني ، وانكشاف وتأكيد الحقيقة الدموية للكيان الإسرائيلي وفضح الأساليب اللا أخلاقية واللا انسانية لهذا المجتمع الصهيوني الاستعماري القائم على الخداع والأكاذيب والتضليل والبطش الدموي .