الصعوبات العلمية التي تحف بامكانية صياغة نظرية قاطعة مانعة لمفهوم الثورة وشروط اندلاعها، حيث لم تخرج محاولات تاريخية سابقة من هذا القبيل عن كونها استنساخات لاحقة لديناميات اندلاع ثورة بعينها، او انها استخلاصات وصفية لالتقاء مجموعة من عناصر تكرر حضورها في مسارات اندلاع عدة ثورات وقعت، يدفع للقبول بمقاربة القابلية الثورية باعتبارها وعيا بوضع معاناة غير مبررة لحالة من الظلم الذي يجب رفضه والانقلاب عليه لانهاء حالة المعاناة تلك بديلا عن ذلك المفهوم للثورة .
وفي هذا السياق ومن منطلق واقع الازمة الحادة لدولة ما بعد الاستقلال التي تكاد ان تكون قد ُوأدت لحظة ولادتها، اذ جاء توأمها طاغيا ثقيلا تنازعيا اقصائيا عشوائيا جاهلا بشروط انبثاق اعادة انتاجه التاريخية، جرت عملية تصنيع لمعاناة مواطني هذه الدولة باشكال وانواع من القهر قل نظيرها في دول القرنين التاسع عشر والعشرين، ومعها كانت عوامل نضوج الوعي بالظلم تأخذ شكلا تصاعديا ظاهرا لكل ذي بصر الا لبصر توأم الدولة من القابضين على زمام السلطة فيها.
فقد لا يسعفنا الحظ كثيرا في العثور عبر التاريخ على سلطات سياسية تغولت على دولها كما هو حال السلطة السياسية في الدولة العربية، كما قد لا نجد مثيلا لافراد تغولوا على السلطة السياسة نفسها كما تغول افراد في السلطة السياسية العربية وانحرفوا بها الى ما يشبة نوعا من آليات عمل العصابات المارقة، عملت على رفع مستويات الشعور بالمعاناة الظالمة لدى بشر هذه الدول ووضعتهم في حالة القابلية للثورة للقضاء على هذه المعاناة.
ورغم تأكيد توماس هوبز على ان الطبيعة الانسانية للبشر تنطوي على ثلاثة ابعاد رئيسية للصراع هي التنافس والاختلاف والرغبة في تحقيق المجد وحدد وجود الإنسان في حالة الطبيعة بوصفها حالة "حرب الكل ضد الكل" فانه راى في اطار معالجة تاريخة محددة ان افضل الانظمة السياسية قدرة على ضمان استمرار الاستقرار السياسي والامن الاهلي هي انظمة الحكم المطلق والانظمة الاستبدادية ، دون ان يتأكد من السقف الذي قد تذهب به هذه الابعاد باصاحبها نحو صراع مفتوح وفوضى عارمة.
او ربما انه لم يخطرر بباله ان تصادف حركة الصعود التاريخي للوجود الانساني حالات ارتكاس تلتقي خلالها باصناف من الحكام المستبدين تتغير معهم معادلة الوجود الطبيعي للانسان من حالة حرب الكل ضد الكل، الى حالة حرب الواحد ضد الكل، والكل ضد الواحد على غرار ماشهدنا في ليبيا وما زلنا نشهده في كل من اليمن وسورية، لننتهي الى حالة نساوي فيها بين انعدام ضرورة استمرار الدولة، واهمية القضاء على سلطة خرجت عن نطاق ما عهد لها تاريخ تطور التمدن الانساني من مهام للارتفاع بمستوى ذلك التمدن، بما يشكل تهديدا لامكانية العودة – ولو مؤقتا- الى الحالة الطبيعية الاولى من وجود الكل في حرب مع الكل كما يحدث الان في الصومال وفي العراق قبل وقت قصير، او كما قد يحدث في دول اخرى مرشحة لذلك.
فدولة ما بعد الاستقلال التي ولدت مأزومة بالاساس كما يذهب الى ذلك فريق من الباحثين العرب لاسباب ترتبط بظروف نشأتها المعاصرة، او لعجزها عن انتهاج سياسة تعكس مصالح المجموعة الوطنية وتشيع مفهوم الدولة الديمقراطية ودولة القانون، كإطار لتنمية مفهوم المواطنة، تتجاوز به مختلف أصناف الولاء الجزئي والتقليدي، الفردي والاجتماعي، لكيانات ما قبل الدولة، كالانتماء الجهوي والطائفي والقبلي والديني وبالتالي الفشل في تحقيق الاندماج السياسي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية والعدالة في توزيع الثروة والسلطة والارتهان للقوى الدولية لحمايتها كما يرى ذلك فريق ثان، كلها عوامل ادخلت الدولة العربية المعاصرة مرحلة الموت المبكر، ووضعت قوى المجتمعات العربية في حالة القابلية الثورية.
واشتد الوعي العربي الشعبي بخطورة دور القوى الخارجية سواء في تسببها بتلك الولادة المأزومة للدولة او في حماية الانظمة السياسية فيها التي تؤدي ادوارا قهرية ضد الداخل الوطني، ولم يعد له استعدادا للتمييز بين قوى السلطة الداخلية وبين القوى الدولية التى تحميها، بل انه كثيرا ما يرى بهذه القوي ام المصائب، مما يعني ان مشاريع التغيير للقابلية الثورية في المنطقة لن تتوقف على تغيير الانظمة السياسية، بل والى اعادة النظر في طبيعة العلاقة السياسية مع القوى الخارجية والا فانه لن يكون للتغيير اي معنى.
وادراك القوى الخارجية لطبيعة هذا التغيير المرتقب، ولاستحالة ضمان نجاحها في اسقاطة بالقوة لاسباب اخلاقية من شأنها اسقاط اخر اوراق التوت التي لا زالت تتستر بها هذه القوى كصاحبة مشاريع ديمقراطية ومدافعة شرسة عن حقوق الانسان كما تروج لنفسها من ناحية، ولعدم قدرتها الفعلية على تغطية فتح جبهات مواجهة جديدة من ناحية ثانية، فان ذلك يدفعها لاستبدال محاولة الاسقاط المباشر لهذا التغيير بالتلاعب باهم عناصر نضوج القابلية الثورية العربية من خلال ادخال حالة من الشك والبلبة في صفوف قوى التغيير كما لو ان ارادة التغيير ارادة خارجية ومن فعل نفس القوى التي تسببت في صيرورة الازمة.
فالمواطن العربي الذي خبر السياسة الامريكية والاوروبية، ويعرف الاسهام التاريخي المتوحش لها بازمة الدولة والمجتمع في الوطن العربي، لا يمكن له ان يصدق ان القوات النيتو او المارينز التي عاثت فسادا في بغداد واطلقت المشروع الطائفي الايراني من قمقمه، كما لا يصدق ان امريكا التي اوقفت لتوها التزاماتها المالية نحو اليونسكو لا لشيء الا لان هذه المنظمة قبلت فلسطين عضوا فيها كامل العضوية، قد تغيرت بين ليلة وضحاها.
وما قد يعبث بمشاعر المواطن العربي، ويدخل البلبة والارباك على تفكيره هو الدور المريب الذي تقوم به جامعة الدول العربية التي ُيعرف عنها انها تدخل اثناء ازمات النظام العربي في سبات شتائي قطبي طويل، و فشلت فشلا ذريعا في حماية مفهوم الامن القومي العربي، بل ولعبت دورا مشبوها في اعادة بنائه بما جعله عرضة لاختراق دولي دائم، وغطت احتلال بغداد...والخ، هي نفسها التي تقوم اليوم بدور ثوري في التعجيل في اسقاط بعض الانظمة العربية، فيما يبدو وكأن اليمن بالنسبة لها ليس بلدا عربيا وشعبه الذي سكن الشوارع والساحات منذ ما يشارف على العام لم ينتحر وهو ينادي برحيل رئيس اقل ما يقال به انه بهلوان متخلف.
والذي قد يزيد الطين بلة هو الدور الامبراطوري القطري الذي يجمع بين دور قومي طلائعي ثوري واستضافة قاعدتي السيلية وعديد ألامريكيتين والأخيرة هي أكبر قاعدة أمريكية عسكرية خارج الأراضي الأمريكية وهي المركز والمصدر الرئيس للعمليات العسكرية التي كانت وما زالت سببا في قتل الآلاف في العراق وأفغانستان، وهي نفسها التي عاندت السعودية عام 2006 اثناء عدوان جويليه على لبنان ووقفت الى جانب سوريا وحزب الله، تقود الجامعة العربية الان في سلسلة من القرارات ستمهد حتما لتدمير دمشق، ان لم يكن لفتح بواباتها لغزو امريكي، اخطأت المعارضة السورية عندما غطته في البيان التأسيسي للمجلس الوطني.
ولكن هل معنى ذلك ان نصطف الى جانب النظام السوري، بكل تأكيد لا، لان عوامل القابلية الثورية في سوريا هي عوامل داخلية اساسها ازمة دولة ونظام كما هو الحال في كل الدول العربية بلا استثناء، وان الحراك الامريكي والخليجي، هو حراك اللحظات الاخيرة لركوب الموجة من ناحية، ولادخال حالة من الارباك في صفوف القوى الوطنية، لتسهيل تحقيق هدف ركوب الثورة امريكيا وخليجيا، واجهاض نضوج عوامل القابلية الثورية العربية قبل فوات الاوان.
صحيح انه لم يعد من خيار امام الولايات المتحدة سوى التعامل مع حقائق الامر الواقع، كما عبرت عن ذلك وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلنتون مؤخرا، بيد ان ذلك لا يعني استسلاما كاملا لهذا الواقع، حيث ستحاول امريكا الالتفاف عليه كل ما امكن لها ذلك، وهي امكانية يتسع نطاقها مع الاستسلام لمحاولات العبث بعوامل نضوج ضرورات التغيير الداخلية.