كل شيء وارد، في عالم صار فيه المؤثرون مجرد أرقام -إن ارتفعت- تجعل من أي محتوى يدوم يومين على الأكثر، ما يشار إليه بالبنان في حظيرة ال «تريندينغ»! طبعا لا يحدث جراء جهد ولا حتى تميز، بل نتيجة عملية محكمة مسبقا في لوغرتمات –»ما يْخُرّشْ المَيّه- ليس فقط لكل منصة على حدة، بل وفي كل بث بالمفرّق والجُملة فيما يسمى «سْتْريمِنغ»!
كلما زرت بلدا تكرس لها فضائية -بأي لسان نطقت- «سترييما» خاصا، انكشفت حقيقة الرسائل الإعلامية الموجهة في ذلك البث الخاص الذي يحسب مشاهدوه أو ينسوا أو يتناسوا أن غرف التحرير الصغيرة هنا وهناك -في الشرق الأقصى أو الأدنى وما بينهما- لا تخرج عن التوجيهات المركزية والخط التحريري الضابط للكل، لإيقاع الصحفيين وحتى المعلقين وأحيانا المحللين!
من هنا تأتي حكمة مقولة جدودنا «العليق وقت الغارة ما ينفع»، فالزاد الحقيقي من الصحافة الحرة والنزيهة -إن ما زالت على قيد الحياة- ذلك الزاد هو في الأصل ذاتي المنشأ، بمعنى أصيل لا هجينا، ليس بهجين ولا بمدجّن.. لا غنى عن العقل الحر إن أردنا تحرير الإرادة والخيار والقرار، والعاطفة والشعور والسلوك. الحرية كلٌ متكامل. كل شيء يبدأ بالعقل، والبعض يراه القلب، والحقيقة أنهما الاثنان معا. تراثنا الروحي في هذا المشرق العظيم، ما زال يذكّرنا بأن صلاح الوجدان هو الضامن لصلاح العقل وفلاح الإنسان. الضمير لن يكون غائبا أبدا مهما حاول الإنسان تغييبه. ذلك الصوت الداخلي -ظنناه في الرؤوس أو الصدور- يبقى حيا ما دام هبة الله، لا وسوسة شياطين وأبالسة أي زمان وأي مكان. ما من أحد «على راسه ريشه»! الحامي والراعي والهادي هو الله وحده سبحانه.
لكن ثقافات أصيلة في مجتمعاتنا وليست دخيلة أو مستوردة، لها دور في تعزيز ذلك الصوت الداخلي، هو في الأصل صوت الوالدين أو -من بعدهم- الأخوة والأخوات ممن تسنّم مكانة القيادة سواء من منطلق تقدم العمر أو علو القدر. وكون الصوت أحيانا بحاجة إلى أن يكون من خارج دائرة الأسرة الضيقة، ثمة حاجة إلى الأجداد أو الأعمام أو الأخوال. في بعض الأحيان تشاء الأقدار أو بعض الأسر اختيار ما يعرف بالإنجليزية «غادفاذر». حرصت على رسمها في كلمة واحدة حتى لا يساء ترجمتها، فالصفة هي صفة العراب الشهم أو ذلك الشيخ الحكيم أو الفارس النبيل الذي يتولى مهام رعاية كل ما هو واعد في الحياة الشخصية أولا ومن ثم المهنية لمن أكرمه الله بتلك الرعاية. لم أنخدع يوما بمنظّري الفصل بين الشخصي والمهني، فلا أمانة لأي كان في أي وظيفة أو مهنة، إن كان سلوكه مع أسرته أو عشيرته أو جيرته (جيرانه) وزملائه ليس «حسن السير والسلوك»، وتلك عبارة أثبتت مع الأيام صدقيتها الذهبية ومعياريّتها الماسيّة.
المقلق للغاية -بلغة مسؤولي بعض المحافل الدولية- أن هذا الدور العظيم تعرض للاختطاف من قبل من سموهم «إنفلونسرز» وما هم -باستثناء من رحم ربي- ما هم بالمؤثرين الحقيقيين أو الإيجابيين. ومن باب المشاركة في فرحتنا بخريجينا، الله أسأل أن يحرص أولو الأمر وأولهم أولياء أمور الطلبة، خريجي التوجيهي وخاصة المبرزين والمتعثرين، أن يحرصوا على حمايتهم من المؤثرين الخطرين المتلاعبين بالمزاج العام والرأي العام (والأول أكثر خطورة).
المطلوب هو عراب لكل خريج، يتعهده بالرعاية، تلك أعظم أمانة ومكانة من التعهد المالي بدفع الأقساط الجامعية مثلا. «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون» كما جاء في الذكر الحكيم. ونحمد الله على أن مملكتنا الأردنية الهاشمية تعرف لدى الدنيا بأردن أرض العزم.. ونحن لها بعون الله.
هنا في بلاد العم سام لا يقتصر دور العراب في دوائر الأسرة أو القرابة بل يتعداها إلى المربعات العلمية والمهنية إن جاز التعبير. ويا سعد من حظي بالتقاطع ذي التكامل في الأدوار. كأن يكون العراب من عظام الرقبة..