إذا كانت الثورات الصناعية السابقة تركز على دفع عجلة التقدم التكنولوجي بأي ثمن، فإن الثورة الصناعية الخامسة تأتي في وقت يتزايد فيه الاعتراف بالحاجة إلى مواءمة الابتكار مع القيم الإنسانية ، حيث أنها لا تسعى فقط لتطوير الآلات والأتمتة، بل تهدف إلى بناء جسر جديد بين الإنسان والتكنولوجيا، لتكون هذه التكنولوجيا خادمة للإنسان وليست بديلاً عنه ، و في هذا السياق، تصبح الإنسانية والأمن الإنساني محورين أساسيين لهذه الثورة، مما يجعلها ليست مجرد قفزة تكنولوجية، بل تحولاً نوعياً في كيفية تصورنا للعلاقة بين الإنسان والآلة ، لهذا نجد الإنسانية في قلب الثورة الصناعية الخامسة ، وقد شاهدنا كيف أدت الثورة الصناعية الرابعة إلى تسريع رقمنة المجتمعات وزيادة الأتمتة، مما أثار مخاوف بشأن مستقبل العمل والمجتمعات الإنسانية ، في حين أن هذه الثورة كانت تدور حول دمج الأنظمة المادية والرقمية من خلال إنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، والآن بعد الثورة الرابعة ، تأتي هذه الثورة لإعادة تعريف هذا التكامل بما يخدم الإنسانية ، بالتالي الثورة الصناعية الخامسة تُعيد التركيز على الإنسان، ليس فقط كعنصر مشارك في العمليات الصناعية، بل كقيمة أساسية ، و هنا، لا يتعلق الأمر بتصميم الآلات الذكية فحسب، بل بتطوير أنظمة تشاركية تتفهم وتستجيب لاحتياجات البشر، وتساعد في تحقيق حياة أكثر رفاهية واستدامة ، والتكنولوجيا في هذه الثورة ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق مستقبل أكثر إنسانية ، أما الأمن الإنساني ، فهو ضرورة في العصر الرقمي الجديد ، ومع تطور التكنولوجيا وتزايد الاعتماد على الأنظمة الرقمية، تزايدت التحديات المتعلقة بالأمن الإنساني ، الذي يركز على حماية الأفراد من التهديدات الشاملة مثل الفقر، الجوع، والمرض، ويتعرض الآن لضغوط جديدة ناتجة عن العالم الرقمي ، ففي إطار الثورة الصناعية الخامسة، توسع مفهوم الأمن الإنساني ليشمل الحماية من المخاطر الرقمية مثل الهجمات السيبرانية، انتهاكات الخصوصية، والتلاعب بالمعلومات ، وهذه الثورة تدعو إلى تطوير سياسات واستراتيجيات تضمن أمن الإنسان في العالم الرقمي، وتعزز الثقة في الأنظمة التكنولوجية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية ، لهذا يجب أن تتضمن هذه الثورة تعزيز الأمن الصحي والغذائي من خلال استخدام التكنولوجيا بطرق ذكية ومستدامة ، فعلى سبيل المثال، يمكن للتكنولوجيا تحسين الأمن الغذائي من خلال تقنيات الزراعة الذكية التي تزيد من الإنتاجية وتقليل الهدر، بينما يمكن للتكنولوجيا الطبية المتقدمة توفير علاجات مخصصة للأفراد وتحسين الصحة العامة ، فضلاً عن إستخدامات التكنولوجيا في مجالات أخرى مثل استخدامها كأداة للتمكين والعدالة الاجتماعية ، وللتوضيح اكثر نقول : إذا كانت الثورات الصناعية السابقة قد أدت إلى تفاوتات اقتصادية واجتماعية نتيجة للتركيز على الإنتاجية على حساب القيم الإنسانية، فإن الثورة الصناعية الخامسة تأتي لتصحح هذا المسار ، فالتكنولوجيا في هذه الثورة تستخدم كأداة للتمكين، وليس للاستغلال ، ويتمثل الهدف في ضمان أن الابتكار يعزز العدالة الاجتماعية، ويقلل من الفجوة الاقتصادية، ويخلق فرصاً جديدة للجميع، وليس فقط للنخبة ، كما ويمكن للتكنولوجيا أن تلعب دوراً محورياً في تحقيق هذه العدالة من خلال تطوير منصات تعليمية تتيح الوصول إلى المعرفة للجميع، وتوفير أدوات تمويل صغيرة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتحسين الخدمات الحكومية لتكون أكثر شمولية وفعالية ، ولابد لنا أن نسوق امثله
على تطبيقات الثورة الصناعية الخامسة ، مثل المدن الذكية التي تعتمد على تقنيات الثورة الصناعية الخامسة ، وتمثل نموذجاً لكيفية تفاعل الإنسان والتكنولوجيا بشكل متناغم ،و هذه المدن لا تسعى فقط إلى أن تكون فعالة من حيث الطاقة والإدارة، بل تضع رفاهية السكان في صميم تصميمها ،و توفر هذه المدن بيئات معيشية تعزز من صحة ورفاهية الأفراد، مع التركيز على الاستدامة البيئية والاقتصادية ، اما
في قطاع الصحة، تأتي تقنيات مثل الطب الدقيق والعلاج الجيني كأمثلة على كيف يمكن للتكنولوجيا أن تحدث فرقاً حقيقياً في حياة الناس ، و من خلال استخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، يمكن تصميم علاجات مخصصة تتناسب مع الجينوم الفردي لكل شخص، مما يزيد من فعالية العلاج ويقلل من الآثار الجانبية ، وكل ذلك لا يعني عدم وجود تحديات ، ولكن من قلب التحديات تتشكل الفرص المستقبلية ، لهذا علينا أن نعترف انه رغم الفرص الهائلة التي تقدمها الثورة الصناعية الخامسة، إلا أنها تأتي مع تحديات كبيرة تتطلب حلولاً مبتكرة ،و أحد أبرز هذه التحديات هو الحاجة إلى تطوير مهارات جديدة تتناسب مع متطلبات العصر الجديد ، ويجب على الحكومات والشركات والمؤسسات التعليمية أن تتعاون لتوفير برامج تدريبية تستهدف تحسين مهارات القوى العاملة وتمكينها من التكيف مع التغييرات السريعة ، ومن جهة أخرى، تُعتبر الثورة الصناعية الخامسة فرصة لتحقيق التنمية المستدامة على نطاق واسع ،و من خلال اعتماد تقنيات الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة الموارد، يمكن تقليل التأثير البيئي للصناعة وتعزيز الاقتصاد الدائري الذي يساهم في حماية البيئة وتحقيق الرخاء للجميع ، لهذا علينا أن نعي جيدا أن الثورة الصناعية الخامسة ليست مجرد تقدم تكنولوجي آخر ، بل هي تحول شامل يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا ، و تدعونا إلى تبني نهج جديد يضع الإنسانية في المقدمة، ويعزز الأمن الإنساني في جميع جوانب الحياة ، و لتحقيق هذه الرؤية، يجب أن نعمل معاً كأفراد، مجتمعات، وحكومات لضمان أن تكون قوة إيجابية تُحدث تغييراً حقيقياً في العالم ، لأن الطريق نحو مستقبل أكثر استدامة وعدالة يبدأ الآن، مع الثورة الصناعية الخامسة ، التي تأتي دليل نحو هذا المستقبل في العصر الجديد ... !! خادم الإنسانية .
مؤسس هيئة الدعوة الإنسانية والأمن الإنساني على المستوى العالمي .