كتب الدكتور سمير محمد ايوب - قبل شهرين، اكرمني الصديق العزيز الدكتور يونس ابراهيم التميمي، بكتابة تقديم لكتابة في أدب السِّيَرْ، وهو الكتاب الخامس عشر في عناقيد كتبه المنشورة. الدكتور يونس التميمي ، استشاري في العمل المصرفي التقليدي والاسلامي، مبدع متعدد المواهب والمهارات، وغني عن التعريف.
مما قلت في تقديمي للكتاب الذي صدر من أيام:
رغم احترامي للذاكرة المتجهة الى المستقبل مباشرة او مداورة، إلا أنني لم أُبْدِ اهتماما بيِّنا بحمولاتها ومعمار انثيالاتها، مثلما بِتُّ أفعل منذ مدة قريبة. بعد أن توفرت لي أشراط الفهم، صارت مسائِلُها تحتكرالكثيرمن مساحات اهتماماتي. وتكاد لا تخلو قراءاتي وحواراتي من شيء من مقتضياتها وتبعاتها، ولا عن الكثير من مضامينها. رحت أستكشف عن طريق التحقق بالمقارنة، ما تَفَلّتَ من اعترافات بعض المؤثرين في حياتنا.
انبهرت بصدق بعضهم، وراعتني تأتآت بعض آخر، وأوجعني ما في بعضها من حَوَلٍ وعَرَجٍ، وما تُرِكَ في دهاليز بعضها يغط بالتعمد في نوم عميق. وصرتُ شغوفا بالتعرف على آليات الضبط والتشذيب التي اتكأ عليها بعض من كتب، وهم يشتبكون مع ذواتهم، ومع ما احاطوها به من مكاشفات.
أتممت قبل ايام، قراءة مسودة هذا الكتاب، بينما كنت منشغلا بالاعداد المتقدم لحوارية علنية معمقة مع دولة طاهر المصري حول سيرته الذاتية المعنونة باسم " الحقيقة بيضاء ".
حين بدأت قراءة هذا الكتاب، كنت اعرف انه ليس الكتاب الأول للدكتور يونس ابراهيم التميمي، فالدكتور يونس في غيطان الثقافة وسهوبها، ليس عابرسبيل. فقد كان منذ سنوات طوال، قد اجتاز يعزمٍ خطى البدايات الفاصلة بين عتبات الابداع، والمراحل المتقدمة من البناء فوقها. وكنت عبر تلك السنين الطوال، قد حظيت بقراءة العديد مما كان قد خطط وقرر ونفذ، من كتب ابداعية ومرجعية معرفية وثقافية متنوعة.
معرفتي بالدكتور يونس متطاولة في الزمن، متسعة للكثير من الهموم المعرفية والثقافية الجادة. اعرفه كاتبا متدفقا بلا انقطاع. وانت تخوض مُتونه التي يحاول عبرها اثراء أفهام المتلقين، لن تنتظر طويلا قبل أن تعرف أنه غير مُحدَّدٍ ولا مَحدود. إنّه مبدع رهن مخزونه الثقافي الذي ما انفكّ بالتراكم يتجدّد، ورسالته التنويرية التي ما انفكت هي الاخرى تتعمق وتتمدد.
شأن الدكتور يونس في الابداع، هو شأن نَزْرٍ قليلٍ من الكتّاب الذين يصدق عليهم توصيف «الحالة الأدبيّة»، التي تتجاوز في المبدع مُتونَه، بحيث يصير الكاتب نفسُه هو موضوعَ تأمّل. فثمة اعمال ليونس، مع كل إعادة في قراءة نصوصها، تشدك برفق للتعمق في فهم مشروعه الثقافي، وفهم رهاناته الادبية والفكرية والجمالية. وهي قضايا اخترقت متون دكتور يونس العشرين حتى الان، من اقصاها الى اقصاها، وتعبر عنه تعبيرا دقيقا ومنصفا.
هذا الكتاب
يحمل هذا الكتاب المشغول بأدب المكاشفة، عنوانا لافتا وهو " جولات افق في أدب السِّيَر ". اجاد المؤلف صياغة جملته الافتتاحية ، وكان ذكيا في توريطنا في حمولات هذه العتبة الاولى لكتابه هذا. شدتني ايحاءاتها. واثارت مفارقاتها الكثيرة فضولي، لأستمر في متابعة القراءة. خاصة وان غلاف الكتاب يتصدره صراحة تجنيس ادب السِّيَرار.
لفت انتباهي اصرار الكاتب على وضع يده على موضوع بالغ الاهمية في السرد الادبي الفني، ألا وهو انثيال الذاكرة. وشدتني قدرته على كشف الغطاء عن صناديق الذاكرة وكنوزها، واظهارها للضوء.
اهمية هذا الكتاب ليست عبثا، بل تعكس اهمية موضوعة الاعتراف بكل مسمياته وتنوعاته وخصائصه، وما يرتبط بها من ملكات ومهارات ومقتضيات وتبعات وضوابط، وهي اهمية لا تحتاج كثير شرح، يكفي للتدليل عليها هذا الافتتان الذي تحوزه المتون الادبية المتعلقة بالناس واحوالهم، في الزمان وفي المكان، كالسِّيَر والتراجم ، المذكرات واليوميات والاعترافات، قصص الحياة والسير الذاتية وما شابه ذلك. وربما يكون هذا الافتتان بالقول، جزءا من الافتتان بأصحابها المؤثرين وفيما يشيعونه عن حياتهم او يختبؤون خلف غموضه العميق.
على الرغم من أنَّ غلاف الكتاب يتصدره تجنيس «أدب السير» صراحة، دون مراوغةٍ تجنيسية، على غرار ما يفعل البعض، يمضي الدكتور يونس في الكشف عن تبلور ادب المكاشفة لينفتح ما يود قوله على أجناسٍ مختلفة بديعة قوامها السرد، ولعل هذا الانفتاح النصي وتجاوز التجنيس الادبي الصارم هو من أهم أسباب اهميته.
قبل ان اقول شيئا عما سنقرأ ليونس في هذا الكتاب، اود ان اشير بعجالة الى عبارة كنت قد قرأتها ذات يوم تقول: أن الكتاب الناجح هو ذاك الذي يدّعي الناس، أنهم قرؤوه وهم ما قرؤوه. وإذا أسقطنا هذه العبارة على هذا الكتّاب، فأنا أؤكد على انه ليس منهم، فقد اعدت قراءته لاقول:
يصعب استعراض كل الدسم الذي تختزنه صفحات هذا الكتاب، دون الوقوع في فخاخ الاختزال المخل، فلو قلت أنه في أب السرد أو أدب الاعتراف أو في انثيالات الذاكرة، فسيصحُّ ذلك بقدر صحة قولي أنه في أدب الحكي على العموم.
فالحكي والسرد الفني، هما الشكل الحداثي لأقدم ممارسة ثقافية عرفها الإنسان في تاريخه، ألا وهو الحكي. فهما – الحكي والسرد – بتفاصيل حكاياتهما وشخصياتهما واماكنهما وأزمانهما، يؤديان نفس الوظيفة الاجتماعية الثقافية، وهو اشباع رغبة الانسان في معرفة ما الذي حدث ، من خلال اعادة تشكيله وفق رؤية سارد. وبالتالي فهما كالحياة متنوعان وثريان، وهما من أكثر الفنون الأدبية تعبيرا عن تجليات التجربة الانسانية الخاصة والعامة، والمحددة في زمان ومكان دون السقوط كثيرا في فخاخ ذاتية مفرطة.
عندما تقارب بتمهل سوانح الكتاب، مقاربة المكتشف لا مقاربة المتعجل، تشعر أنك تتجول في رياض الاعتراف، وأن القضية المحورية فيه هي المكاشفة، وكيفية اتقانها والاستفادة من ثراء السير والروايات الواصفة لمرئيات وموصوفات تجربة خاصة، في عالم عاشته يوما ما. فالحديث لا يكون ساعتها ترفا، وإنما إفصاحيات دفاعية ضد النسيان والإمحاء.
من السطر الأول في هذ الكتاب، يؤسس الدكتور يونس تعريفا لما سيخوض فيه لاحقا في جولاته العشر التالية. يجذب به انتباه قارئه ويثري وعيه. أدب الاعتراف، او كما يحلو للبعض تسميته بأدب المكاشفة، المتجه لفهم الذات واستبطان مناطق مخفية فيها. لأن للأعتراف الموضوعي والجريء قيمة تفوق قيمة الصمت. تنال عند المهتمين بالاجناس الادبية قدرا كبيرا من العناية والمتابعة. فمنهم من يعتبر السيرة الذاتية بيان حالة، وهناك من يراها منهم نوعا من التلصص المجتمعي .
الحنين للماضي، واسترجاع بعض تفاصيله، حصن أمان للبعض، كلما ضاقت طرقه التجأ إليها، لتعطيه سندا يحتاج إليه في مواجهة ما لا يستطيع له دفعا. فالذاكرة عند البعض كالبيت حصن، مهما حاول البعض الخروج منها أو التخلي عنها، إنكارها أو اغتيالها، أو طمر بعض جثثها، فإنها باقية مَحكمةً عُليا لا تنفصل عن وجدان صاحبها.
وخلال الصفحات اللاحقة للكتاب يمضي المؤلف في الكشف عن تبلور أدب المكاشفة، لينفتح كتابه على نماذج متنوعة من أجناسها، التي بما تورده من تفاصيل، ندرك ما تكتنزه هموم الكاتب من قضايا. ولعل هذا الانفتاح النصي وتجاوز التجنيس الادبي الصارم، هو أيضا من أهم أسباب تميز هذا الكتاب.
لا بد من الاشارة هنا الى ان الشجاعة، هي جوهر الكتابة الحقيقية، سواء كانت ذاتية او تخيلية، فإن فضل طريقة للكتابة، هي الاقتراب من الذات والغوص في صناديقها وما يستوطن عتمها، وطرحه للشمس والريح، والمحاسبة والسجال.
ولكن هذا النوع من الاقتراب، يقتضي شيئا من العري والمكاشفة الجريئة. وهنا لا غرابة في أن يتردد كثيرون في إماطة اللثام عنها، لأن الخوف من الغوص في الذات وطرح ما فيها في النور، هو هاجس من هواجس البعض، الذين دفعهم خوفهم النمطي من تبعات التعري، إلى تعميق رغبتهم في الصمت. ودفع بعضا آخر إلى اختلاق سيَر استرضائية، انتهج في اختلاقها تقنيات الإنتقاء، فاستل من المضمر فيها، ما تسمح به ظروفه وقصدية إبراء الذمة. وبعضهم رَسماً لآتٍ أو تسديدا لحسابات، قد آثر الابتداع ونكأ الجراح ونبش القبور، والهمس فقط بما لا يروى بصوت مرتفع.
مع العلم ان الذاكرة الناضجة السوية غير الملتبسة، هي كائن غير هش ابدا، كائن له عيون تستضيف دموعا حزينة، وتستضيف بسمات فرحة. فيها يجتمع تاريخ يتجدد، ولا يتجمد في دهاليزها الكثيرمن الأفكاروالعقائد العاقرة التي لا تنجب، ولا تلك الولادة. وإن كانت بعض الذواكر الحية تعج بلا خجل بالكثير من الأفكار الحولاء، وتلك العرجاء، مما يبقيها في مواقع رمادية بين الافصاح والارتياب.
الخاتمة
هذا الكتاب، خلاصة جهد معرفي ثقافي رصين، يملك وعيا ممنهجا، له لسان بارع جهور، يعبرعن تجربة المؤلف في الانتقاء الفكري، وفي العطاء المنتصر للمعمارالثقافي الراقي، بلا تنازل عن جماله ومتعته وفائدته التي تشارك في تجريم الجهل، وفي محاصرة بعض التفاهة والسطحية الملوثة لبعض المشاهد الثقافية السائدة.
عبر شبكة البناء اللّغويّ المستخدمة في هذه المجموعة، القوية والمتزنة والمؤثرة، تم التحرر من اللغة العلمية الصارمة، رغم الحشد الكبير من المصطلحات الموغلة في خصوصيتها، وتم رسم معمار النص وجمال السرد فيها، دون الوقوع في الملل.
قبل أن أودع هذه التجربة الإبداعية ، أكرر القول أن الكاتب المبدع، قد أحسن التقاط موضوعه وتحديد تضاريسه، وبذخيرته من المعرفة وتجليات ثقافته وبساطة لغته، نجح في التعبيرعن مشروعه، والسمو به نحو حتميات الحاجة والضرورة ومقتضيات الامتاع.
وانا ابارك للمشهد الثقافي العربي هذه الاضافة النوعية، أبارك لصديقي الدكتوريونس التميمي هذا الإنتاج المميز الذي يستحق القراءة. وازعم أن رحلة العطاء عنده لم تنته بعد، أن أسقف طموحاته الثقافية والمعرفية بلا حدود، لذا ليس من الافراط في التفاؤل، انتظار جديد له عما قريب، في فضاءات الثقافة العربية في الاردن.
متمنيا لهذه الحالة المعرفية والأدبية، النجاح في عملها الملتزم بالفائدة التنويرية والمتعة العقلية، على اغناء مريديه ومحبيه، والمتعطشين للمعرفة والثقافة الجادة بالمزيد من الانجازات النوعية الملتزمة.
الاردن