في إطار السياسة العسكرية الإسرائيلية، يُنظر إلى الاغتيالات كوسيلة لضرب البنية القيادية للخصوم، وإعاقة برامج الأسلحة، وتحييد المخاطر قبل أن تصبح تهديدًا ملموسًا. تعتمد إسرائيل في هذه الاستراتيجية على التفوق الاستخباراتي، والتقنيات المتقدمة، والتنسيق المتكامل بين أذرع الأمن المختلفة.
منذ تأسيسه عام 1949، طور الموساد عمليات الاغتيال لتكون إحدى الأدوات الحربية المفضلة. وتُعتبر "عملية ميونخ" عام 1972، التي نفذتها منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية ضد الفريق الرياضي الإسرائيلي، نقطة تحول كبرى في هذا النوع من العمليات. أطلقت إسرائيل بعدها عملية «غضب الله»، وهي حملة استهدفت أفراد المنظمة في أوروبا والشرق الأوسط. استمرت هذه الحملة لسنوات وشكلت أساسًا لتكتيكات الموساد في العمليات الخارجية.
توسعت قائمة المطلوبين للموساد في العقدين الماضيين لتشمل، بالإضافة إلى قادة المنظمات الفلسطينية، قيادات بارزة من «حزب الله» اللبناني وعلماء البرنامج النووي الإيراني. نجحت إسرائيل في اغتيال «الشيخ أحمد ياسين»، مؤسس حركة حماس (2004)، واغتالت أربعة من العلماء النوويين الإيرانيين في طهران خلال عامي 2010-2012. كما تمكنت من تصفية القيادي البارز في حزب الله عماد مغنية (2008)، و ابو علي مصطفى أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (2001)، والتونسي محمد الزواري «عراب» مشروع تطوير صناعة الطائرات بدون طيار في وحدة التصنيع التابعة لكتائب القسام.
مع اندلاع الحرب الأخيرة في السابع من أكتوبر 2023، على خلفية عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها حماس والفصائل الفلسطينية ضد فرقة غزة الإسرائيلية ومستوطني الغلاف، برز ملف الاغتيالات كأحد أهم الأدوات العسكرية الإسرائيلية. جاء ذلك خصوصًا بعد المناوشات المتكررة مع حزب الله في الشمال، وفشل إسرائيل في تحقيق أهداف العمليات العسكرية في غزة. ومع انتقال المعارك إلى جنوب لبنان، نفذت إسرائيل عمليات نوعية اغتالت من خلالها أبرز قادة حركة حماس وحزب الله اللبناني، وعلى رأسهم «إسماعيل هنية»، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي اغتيل في طهران، و«حسن نصرالله»، الأمين العام لحزب الله اللبناني، والقائد العسكري فؤاد شكر، إضافة إلى نخبة من قادة فرقة الرضوان.
بالعودة إلى غزة، يبقى «يحيى السنوار» المطلوب الأبرز لإسرائيل. وعلى الرغم من تكثيف المحاولات للإطاحة به، فإن الموساد فشل في جميع عملياته. يُعرف عن السنوار، الذي قضى فترات طويلة في سجون إسرائيل وتمكن خلالها من دراسة المنظومة الأمنية والاستخباراتية وحتى إتقان اللغة العبرية، اهتمامه الشديد بمتابعة ورصد وسائل الإعلام الإسرائيلية. نقل رفقاؤه في السجون، بحسب تقرير أوردته «الشرق الأوسط»، أنه كان يحافظ على جميع أنماط سلوكه الشخصية الأساسية بشكل صارم للغاية.
في عام 1985، أسس «السنوار» الجهاز الأمني لحركة حماس، الذي سمي جهاز الأمن والدعوة، المختص بملاحقة ومتابعة المشتبه بتعاونهم مع إسرائيل. كما كان له تحركات نشطة داخل السجون الإسرائيلية، إذ جند عملاء داخل السجن يُطلق عليهم «السواعد»، والذين وزعوا الرسائل المشفرة من قسم إلى آخر. للسنوار باع طويل في العمل الاستخباراتي وإعداد الأساليب المبتكرة للتمويه والاتصالات منخفضة التقنية، مما ساهم بشكل كبير في إبقائه بعيدًا عن أعين الموساد وعملائه.
بحسب تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، فإن السنوار تجنب استخدام الاتصالات الإلكترونية، مثل المكالمات الهاتفية والرسائل النصية، التي يمكن لإسرائيل تعقبها، والتي تسببت في اغتيال العديد من المطلوبين. بدلاً من ذلك، يستخدم نظامًا منخفض التقنية ومعقدًا، يعتمد على الرموز والملاحظات المكتوبة بخط اليد، التي تسمح بتوجيه وإدارة العمليات فوق الأرض وتحتها. هذا النظام أزعج المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، حتى مع سيطرتها على قطاع غزة، حيث لم تتمكن المخابرات الإسرائيلية من الوصول إلى السنوار الذي تضعه على رأس لائحة استهدافاتها. ولم يُشاهد علنًا منذ بدء الحرب الأخيرة.
تم الكشف عن نظام اتصالات «السنوار» هذا عبر بعض الوسطاء العرب الذين نقلوا الرسائل خلال محادثات وقف إطلاق النار بين «حماس» وإسرائيل. وصلت الرسائل من «السنوار» مكتوبة بخط اليد، ويتم تمريرها أولاً إلى عضو موثوق به في «حماس» ينقلها على طول سلسلة من الرسل، وقد يكون بعضهم مدنيين. غالبًا ما تكون الرسائل مشفرة، برموز مختلفة لمتسلمين مختلفين وظروف وأوقات محددة، بناءً على نظام طوره «السنوار» وسجناء آخرون أثناء وجودهم في السجون الإسرائيلية. أفاد الوسطاء بأن المذكرة قد تصل بعد ذلك إلى وسيط عربي داخل غزة أو إلى عميل آخر لحركة «حماس» يستخدم هاتفًا أو طريقة أخرى لإرسالها إلى أعضاء الجماعة.
الحس الأمني العالي، ونظام الاتصالات المعقد والحذر، إضافة إلى هندسة شبكة الأنفاق الدقيقة ومحدودية الأفراد المتصلين مباشرة بـ«يحيى السنوار»، كلها تدابير أمنية محكمة جعلت الموساد الإسرائيلي يفشل في الاقتراب من الرجل الذي أصبح بلا شك: الظل الذي لا يُمس.