منذ اندلاع الصراع المتجدد في غزة في أكتوبر 2023، دخل الأردن في معادلة إقليمية حساسة تجعله لاعبًا رئيسيًا في المشهد الجيوسياسي. دوره لا ينبع فقط من موقعه الجغرافي المحوري بين فلسطين وإسرائيل وسوريا والعراق، بل أيضًا من تأثيره العميق على القضايا الدينية والسياسية في المنطقة. وبينما تتركز الأضواء غالبًا على الأطراف العسكرية في النزاع، يبقى الأردن هو المفتاح وراء الكواليس، حيث يتحرك بحذر بين الأمن الداخلي والسياسة الإقليمية المتشابكة.
يعتبر الأردن أن أي زعزعة للوضع القائم في فلسطين تهدد مباشرة استقراره الداخلي. يشكل احتمال تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية نحو الأردن خطرًا داهمًا على المملكة، التي تستضيف بالفعل أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني. هذا السيناريو، الذي قد يتجدد في ظل الحرب الحالية، يُعتبر من "الخطوط الحمراء" التي لا يقبل الأردن بتجاوزها. فقد كانت التصريحات الأردنية واضحة وصريحة؛ إذ تُعتبر أي محاولة لترحيل الفلسطينيين إعلانًا للحرب. هذه المخاوف الأمنية تعززت بسبب تصريحات بعض القيادات الإسرائيلية المتطرفة التي تلمح إلى إمكانية إقامة "إسرائيل الكبرى"، وهي فكرة تمس مباشرة السيادة الأردنية وتشكل تهديدًا وجوديًا.
لا يمكن الحديث عن الدور الأردني دون التطرق إلى وصايته على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وهو دور يرتبط بجذور الهوية الدينية والسياسية للمملكة. في كل مرة يشتعل فيها الصراع حول المسجد الأقصى، دور الأردن الهام في الحفاظ على المقدسات، و الدفاع عن حقوق الفلسطينيين في القدس الشريف. هذه الوصاية لا تمنح الأردن فقط ثقلًا دينيًا في العالم الإسلامي، بل تجعله أيضًا طرفًا محوريًا في أي مفاوضات تتعلق بمستقبل المدينة المقدسة.
يدرك الأردن جيدًا أن أي محاولة إسرائيلية للمساس بالمسجد الأقصى يمكن أن تثير غضبًا شعبيًا واسع النطاق، ليس فقط في الشارع الأردني، بل في العالم الإسلامي بأسره. لهذا السبب، يواصل الملك عبد الله الثاني، والقيادة الأردنية بشكل عام، لعب دور دبلوماسي نشط في الحفاظ على الوضع القائم في القدس، رغم التوترات المتزايدة مع الجانب الإسرائيلي.
التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة يعد العمود الفقري للسياسة الخارجية الأردنية. بفضل هذا التحالف، يتلقى الأردن مساعدات سنوية تقدر بـ1.45 مليار دولار، وهي أساسية لدعم اقتصاده المتعثر وتخفيف الأعباء التي يفرضها استضافة اللاجئين والاضطرابات الإقليمية. علاوة على ذلك، يتمتع الأردن بمكانة خاصة في الغرب كحليف مهم في منطقة متقلبة، وهو ما يجعله قادرًا على لعب دور الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين والضغط على القوى الدولية لوقف التصعيد.
ومع ذلك، فإن الأردن يدرك أن التحالفات ليست كل شيء. العلاقات مع إسرائيل، رغم معاهدة السلام الموقعة في 1994، تشهد توترًا مستمرًا بسبب السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والمقدسات.
من ناحية أخرى لا يمكن فصل الحرب في غزة عن الأثر الاقتصادي والاجتماعي الذي يطال الأردن. فالحرب تزيد من حدة الضغوط على الاقتصاد الأردني الذي يعاني أصلًا من تباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة. السياحة، التي تعد من أهم مصادر الدخل في الأردن، تتعرض لضربات متتالية نتيجة التوترات الإقليمية، مما يزيد من صعوبة تحقيق الانتعاش الاقتصادي الذي تطمح إليه الحكومة.
من الناحية الاجتماعية، يُعتبر الشارع الأردني القضية الفلسطينية هي قضيته الأولى، وغالبًا ما تشهد المملكة مظاهرات حاشدة للتنديد بالاعتداءات الإسرائيلية على فلسطين. هذه الاحتجاجات تضع الحكومة في موقف صعب بين تلبية تطلعات الشعب وبين الحفاظ على استقرار العلاقات مع إسرائيل والغرب.
في ظل التعقيدات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي فرضتها حرب غزة، يظل الأردن يبحر بين أمواج متلاطمة. يتعين على القيادة الأردنية الحفاظ على استقرارها الداخلي ومنع تدفق اللاجئين، وفي الوقت نفسه مواصلة الدفاع عن المقدسات الإسلامية في القدس. ومع استمرار الصراع، من الواضح أن الأردن سيواصل لعب دوره الحيوي كوسيط وداعم للحقوق الفلسطينية، في ظل تحديات جيوسياسية لا تقل خطورة عن الحرب نفسها.
في النهاية، يبقى السؤال الأبرز: إلى أي مدى سيتمكن الأردن من تحقيق هذا التوازن الهش في مواجهة ضغوط الحرب الدائرة والتحديات الداخلية المتصاعدة؟