منذ بداية حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة، دخلت سوريا مرة أخرى دائرة الصراع الإقليمي عبر استهدافات إسرائيلية متكررة ضد مواقع مرتبطة بإيران ، وعلى الرغم من انكفاء دمشق عن المواجهة المباشرة في هذه الساحة، ظلت الغارات الإسرائيلية مستمرة على امتداد الأراضي السورية، من دير الزور شرقًا وحتى الساحل غربًا، في ظل تغييرات جيوسياسية عميقة في المنطقة، حيث لم تكتفِ تل أبيب بالاستهدافات الجوية فحسب، بل امتدت عملياتها لتشمل توغلات برية في عمق الأراضي السورية، مما يطرح أسئلة حول مآلات هذا الصراع والمواقف الدولية والإقليمية تجاهه ، وشهدت سوريا خلال العام المنصرم نشاطًا إسرائيليًا متزايدًا شمل كافة المناطق تقريبًا، إذ استهدفت الغارات مواقع في حلب ودير الزور والقنيطرة، وصولًا إلى العملية الملحوظة في مصياف بريف حماة، التي تخللها إنزال جوي للكوماندوز الإسرائيلي في مركز البحوث العلمية ، وهذه العمليات تعكس استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى تقويض نفوذ إيران في سوريا ومنع استخدام الأراضي السورية كمنصة للهجمات على إسرائيل ،
ورغم تنازلات الرئيس السوري بشار الأسد لتل أبيب، والتي وُصفت بـ "التاريخية" من حيث منع أذرع إيران من استخدام الجنوب السوري كساحة مواجهة، إلا أن إسرائيل واصلت هجماتها، مما يثير تساؤلات حول دوافعها الحقيقية ، فهل الهدف هو منع إيران من ترسيخ وجودها العسكري في سوريا فقط؟! أم أن هناك أهدافًا أبعد تتعلق بإعادة ترتيب التوازنات الإقليمية في ظل الصراع المتصاعد في غزة والجنوب اللبناني؟! هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى إجابات ، سيما وأنه
منذ توقيع اتفاق "فض الاشتباك" عام 1974، والذي أدى إلى إنشاء خط "يوندوف" في الجولان برعاية الأمم المتحدة والولايات المتحدة، كان هذا الخط يمثل أحد أكثر خطوط التماس هدوءًا في العالم ، إلا أن التطورات الأخيرة، بما في ذلك التوغلات الإسرائيلية المتكررة في منطقة القنيطرة، تشير إلى محاولة إسرائيلية لإعادة رسم الحدود وخلق منطقة عازلة بعيدة عن القوات الأممية ، و
إن إنشاء ممر بري جديد يُعرف بـ "طريق سوفا 53" يعزز من هذه الفرضية، حيث قامت القوات الإسرائيلية بتوسيع نطاق توغلاتها داخل الأراضي السورية، مجرفة الأراضي الزراعية القريبة من القرى الحدودية، في إشارة إلى نوايا واضحة لتعزيز سيطرتها على المنطقة ، وهذه الخطوات، التي تتم في ظل صمت النظام السوري، تطرح تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين النظامين السوري والإسرائيلي ومدى وجود تفاهمات غير معلنة بين الطرفين ، وفي الوقت الذي يواصل فيه الجيش الإسرائيلي عملياته في سوريا، برز دور روسيا كلاعب رئيسي في المعادلة ، فموسكو، التي عززت وجودها العسكري في الجولان بإضافة نقطتين مراقبة جديدتين في القنيطرة، تبدو وكأنها تدير اللعبة من خلف الكواليس ، وتشير بعض التحليلات إلى وجود تفاهم غير مُعلن بين روسيا وإسرائيل، حيث يُعتقد أن التحركات الإسرائيلية في سوريا تجري بعلم موسكو، وهو ما يفسر عدم اعتراض القوات الروسية على هذه التحركات، بل وتعزيز وجودها بالقرب من مناطق التوغل الإسرائيلي ، وهذا التفاهم المحتمل يعكس تغيرًا في السياسة الروسية تجاه سوريا، حيث يبدو أن موسكو مستعدة للتغاضي عن بعض التحركات الإسرائيلية مقابل ضمان مصالحها الاستراتيجية في المنطقة ، وفي هذا السياق، يظل نظام الأسد عاجزًا عن اتخاذ أي موقف قوي، بل ويبدو أنه يلتزم بـ "الحياد" خشية التهديدات المباشرة التي قد يتعرض لها في حال تدخل لصالح إيران وحزب الله ،وتزامن التصعيد الإسرائيلي في سوريا مع استمرار الحرب في غزة، وهو ما يعكس استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى تحقيق تكامل بين الساحات المختلفة ، فعلى الرغم من أن الحرب على غزة هي الأولوية القصوى لتل أبيب، إلا أن النشاط الإسرائيلي في سوريا يؤكد أن إسرائيل تدرك تمامًا خطورة ارتباط الجبهات السورية واللبنانية معًا في حال تفجر الوضع مع حزب الله ،و"العملية البرية" في لبنان، تفتح الباب أمام سيناريوهات معقدة قد تتضمن تدخلًا إسرائيليًا أعمق في الجنوب السوري لضمان قطع خطوط الإمداد الإيرانية إلى حزب الله ، سيما وأن هناك مخاوف إسرائيلية من تحول الجبهة الشمالية إلى ساحة مواجهة ممتدة، وهو ما تسعى تل أبيب إلى تفاديه عبر خلق مناطق عازلة وتأمين الحدود ،ومن الواضح أن نظام الأسد، الذي قدم تنازلات غير مسبوقة لإسرائيل، يجد نفسه اليوم في موقف حرج ، فالنظام الذي استند على دعم إيراني طويل الأمد بات مضطرًا للتخلي عن حلفائه تحت ضغوط إسرائيلية وروسية ، وهذا التحول في موقف الأسد يعكس ضعف النظام واستعداده للتنازل مقابل ضمان بقائه في السلطة، حتى وإن كان ذلك على حساب مصالحه الاستراتيجية ،وفي المقابل، يستمر الأسد في تجنب المواجهة المباشرة مع إسرائيل، وهو ما يتضح من غياب أي رد فعل رسمي على التوغلات الإسرائيلية أو حتى العملية الجريئة في مصياف ، ويبدو أن الأسد يفضل البقاء على الهامش في هذا الصراع المعقد، محاولًا الحفاظ على توازنه في مواجهة القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على الساحة السورية ، والسؤال هنا: إلى أين تتجه سوريا في ظل هذه التغيرات؟! حيث
تبدو سوريا اليوم ساحة مفتوحة للتدخلات الإسرائيلية، الروسية، والإيرانية، في ظل غياب أي قدرة للنظام السوري على التحكم في مجريات الأمور ، وبينما تتصاعد التوترات في غزة ولبنان، تظل الجبهة السورية محط اهتمام إسرائيلي متزايد، مع احتمالات تفجر الوضع في أي لحظة ، وإن استمرار هذه العمليات الإسرائيلية في ظل صمت النظام السوري يشير إلى أن الصراع في سوريا بات جزءًا لا يتجزأ من الصراعات الإقليمية الكبرى، حيث تتحكم القوى الكبرى في مصير البلاد، تاركة النظام السوري في وضع لا يُحسد عليه، بين مطرقة التنازلات وسندان التحديات الداخلية والخارجية ... !! خادم الإنسانية .
مؤسس هيئة الدعوة الإنسانية والأمن الإنساني على المستوى العالمي