ماجد الفاعوري - قيل في الأمثال: "الباب اللي بيجيك منه الريح، سده واستريح". ولكن حين يأتيك الريح من غزة، لا تستطيع إغلاق الأبواب أو سدّ النوافذ، فالريح تحمل صوت الأمل، رغم الألم، وتجلب حكايات شعب يأبى الاستسلام، شعب يقف في وجه العواصف والدمار. غزة، تلك المدينة المحاصرة منذ سنين، تحولت إلى رمز للمقاومة والصمود، فأصبح هواؤها المختنق برائحة البارود يملأ كل أركان العالم بنبض التحدي.
في ظل كل ما تشهده من أحداث، تبدو غزة ليست مجرد مدينة، بل أسطورة مكتوبة على صفحات التاريخ. لكل زاوية فيها حكاية، لكل طفل فيها حلم مقيد، ولكل امرأة هناك قصة كفاح قد لا تروى، لكنها تظل حية في القلوب.
وكلما حاولت الجدران إسكات غزة، كان صوتها يعلو. على الرغم من الدمار الذي يسعى لطمس معالمها، تظل غزة مفعمة بالحياة، وكأنها تقول للعالم: "أنا هنا، ولن أغادر". ليست مجرد مدينة تحت الحصار؛ هي حالة إنسانية تتحدى القوانين وتكسر القيود. ففيها أناس يزرعون الأمل على ركام البيوت، ويرسمون المستقبل بألوان النضال، ليظلوا واقفين بشموخ في وجه ما لا يُحتمل.
غزة لم تكن يومًا مجرد رقعة جغرافية، بل روح تسكنها العزة والكرامة، وجسدها جسور من الصمود، وأحلام شعبها تطير فوق الأسلاك والأسوار. في شوارعها، تُحكى حكايات عن أمهات ينتظرن بلهفة عودة أبنائهن، عن أطفال ينبتون وسط الرماد، وعن شباب يحملون شعلة الحلم في عتمة الحصار.
وإذا كان "إغلاق الباب" من الرياح الأخرى يمنح راحة، فإن باب غزة المفتوح يرسم في الوجدان العربي قوة وتحدياً لا مثيل لهما.
في كل زقاق من أزقة غزة، تلتقي بملامح الوجوه التي تحمل من العزيمة بقدر ما تحمل من الألم. تحت أنقاض البيوت المهدمة، ينهض الأطفال، ليس كأي أطفال، بل كأشبالٍ يتعلمون في سن مبكرة كيف يصمدون بوجه العواصف، وكيف يكونون حراسًا لأرضٍ تدفع أغلى الأثمان لتظل حية.
عندما تُغلق كل النوافذ في وجوههم، يبتكرون نوافذ جديدة تطل على الأمل، رغم كل الظلام. يعيدون بناء المدارس التي هدمها القصف، ينظفون الشوارع بأيدٍ صغيرة، ويرسمون أحلامهم على الجدران المهدّمة بألوان الحرية. تراهم يقفون في طوابير بانتظار الماء والكهرباء، لكنهم لا ينتظرون الشفقة؛ إنما ينتظرون الغد، الغد الذي سيشرق ولو بعد حين.
غزة ليست مجرد مدينة. إنها عنوان الإنسانية الصلبة في وجه كل المحن، وتاريخ يمشي على قدمين في زمن يضيق فيه العالم على سكانها. هناك في غزة، يتعلم الجميع درسًا في الصبر والكبرياء، وكأنهم يقولون للعالم: "نحن هنا، لن نتراجع، لن نكسر".
فأبواب غزة، وإن كانت محطمة، ستبقى مفتوحة لأبنائها، وستظل النوافذ التي تحاول أن تحجبها الرياح، تُعيد للأفق قصصًا عن الصمود، لتصبح غزة أسطورةً لا تُمحى، وسحابة تظل فوق كل القلوب التي لم تنسَ.