زاد الاردن الاخباري -
بسام البدارين ـ«الأردن دولة راسخة الهوية لا تغامر في مستقبلها». تلك هي العبارة المفتاح لفهم استراتيجية الاشتباك الأردني مع تداعيات الإقليم والحرب والقضية الفلسطينية.
تصبح العبارة كاشفة وعميقة أكثر عندما يقولها الملك عبد الله الثاني شخصياً، في خطاب العرش الذي يعيد بالمقتضى الدستوري بالعادة ترسيم السياسات والتوجهات للسلطتين التنفيذية والتشريعية في المرحلة اللاحقة. ليس سراً أن الشارع الأردني كان ينتظر بشغف خطاب العرش الذي ألقاه الملك بعد ظهر يوم الاثنين.
وليس سراً أن خطاب العرش هذه المرة أكثر أهمية من أي مرة سابقة بسبب نقاشات جدلية المخاطر والأطماع الإسرائيلية في مختلف الدواوين والمجالسات بين الأردنيين، حيث رئيس كتلة جبهة العمل الإسلامي المعارضة في البرلمان، صالح العرموطي، كان قد طالب عبر «القدس العربي» مؤخراً بما سمّاه حواراً وطنياً للمخاطر. خطاب العرش يجيب عن سؤال المخاطر بطريقة عميقة وغير مباشرة لا يمكن إلا رصدها.
ومفتاح الإجابة مرتبط تماماً باستراتيجية تجنب المغامرة بمستقبل البلاد وبفلسفة معادلة ثنائية طرحها الخطاب بوضوح، محتواها أن الأردن لن يخضع لسياسات لا تلبي مصالحه أو تخرج عن مبادئه. الملك في الواقع، لم يترك تلك المبادئ والثوابت من دون تعريف؛ فقد تحدث عن الاشتباك مع رواية المتطرفين للأحداث في الكيان الإسرائيلي.
وخاطب أهل غزة في الإغاثة والمساندة والتضامن بصيغة «سنبقى معكم».
الأهم في ملف القدس، التأكيد على الثابت المرجعي بعدم الخضوع لأي مساومة هنا، بمعنى أن رعاية المقدسات والوصاية في القدس كانت وستبقى «أولوية أردنية هاشمية» والمملكة ليست بصدد حتى مناقشة التزامها بالدفاع عن المقدسات استناداً إلى الوصاية الهاشمية. تحليل العبارات الهادفة التي استخدم عاهل الأردن بعضها لأول مرة في خطاب العرش، يحتاج إلى تأملات هادئة؛ لأن الخطاب بطبيعته يناقش الملفات المحلية والوطنية، ويستعرض اتجاهات وسياسات الحكومة، لكن الإيقاع الفلسطيني والإقليمي فرض نفسه هذه المرة على خطاب مؤسسة العرش الأردنية، الذي كان موجزاً ومختصراً ومباشراً بطريقة غير مسبوقة.
سيناريوهان مفترضان
في فهم الدلالات الخطاب ومن باب التحليل السياسي، يؤشر إلى استراتيجية المراوحة في التعامل مع الاستحقاق الإقليمي وتداعياته مرحلياً بين مفردتي «مبادئنا ومستقبلنا». والاستنتاج هنا يتمثل في الإمساك بالعصا التي تمثل الظرف الموضوعي والواقعي الآن من منتصفها.
مهم بالتوازي الانتباه إلى أن حرص الخطاب الملكي على معادلة تجنب المغامرة بمستقبل البلاد والمجازفة بالمبادئ، قد تقود إلى سيناريوهين مفترضين، خلافاً لأنها تقرأ في سياق معلومات خاصة في عمق الدولة.
الأول أن الدولة الأردنية التي وصفها الملك بأنها راسخة، ليست بصدد التسامح والمرونة مع أي مشاريع يطرحها اليمين الإسرائيلي تحت عناوين تهجير الفلسطينيين أو حتى حل القضية الفلسطينية على حساب المملكة.
والسيناريو الثاني هو الإشارة المباشرة إلى حد مفهوم إلى أن عمان سياسياً وإقليمياً، ليست بصدد التهور في الدفاع عن مبادئها ومصالحها.
ذلك يمكن ترجمته كتلميح إلى أن الأردن سيبقى في منطقة أبعد عما يسمى بمحاور الممانعة والمقاومة، خصوصاً في مرحلة يستأثر فيها اليمين الأمريكي أيضاً بعد الانتخابات الأخيرة بمفاصل الحكم والإدارة، وقد تعود فيها ببساطة -كما يتوقع سياسيون كثر من بينهم مروان الفاعوري وآخرون- صفقة القرن بمعناها المعدل.
لافت للنظر أن محتوى خطاب العرش الأردني الأبعد في مسألة الإجراء التنفيذي والاشتباكي قد حدد موقف الأردن المعارض للعدوان والمشتبك مع الإسرائيليين، وكذلك الدرب الذي يعتقد بأن المملكة ستسلكه في إطار خط واتجاه سيرها سياسياً، وعلى قاعدة أن الأردن سيعمل من خلال تحركات عربية ودولية لوقف العدوان.
الدلالة هنا تؤشر إلى طبيعة الأسلحة والأوراق المتاحة للتصرف، بمعنى أن ما يطلبه الجمهور من سياسات لإلغاء اتفاقية وادي عربة والتطبيع، قد يكون المقصود بمعادلة «لن نغامر بمستقبل أرضنا».
ثلاثية مانعة
وهنا حصراً يحيل أحد أبرز رجال الحكم والإدارة في الأردن «القدس العربي» إلى التذكير بالثلاثية التي تمنع الآن الاستجابة لما يطلبه الجمهور بخصوص وادي عربة، وهي ثلاثية «الغاز والمياه والمساعدات الأمريكية».
وخطاب العرش في السياق وبعد ترسيم درب العمل في سياق تحركات عربية ودولية وليست عسكرية أو مغامرة بمستقبل البلاد حتى الآن، يمكن القول بأن الأدبيات الأردنية تكمل مع أهل غزة والضفة الغربية تقنيات وميكانيزمات الإغاثة والمساعدة، مع الإشارة المباشرة إلى أن النشامى في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية هم الذين أدوا التحية للعلم ووصلوا بالمساعدات إلى غزة جواً وبراً أثناء الحرب، لذا هم مصدر فخر وطنهم وأمتهم.
بطبيعة الحال، قال الخطاب بوضوح إن مستقبل البلاد لن يخضع لسياسات لا تلبي مصالحها، وذلك لا يعني إلا أن ما سيتخذ من إجراءات وقرارات في سياق المشهد الإقليمي والفلسطيني بعد الآن معياره الأساسي في اعتماد مصلحة الأردن وفقاً لرؤية مؤسساتها وقيادتها بطبيعة الحال، وبعيداً عن منطق المجازفة.
ذلك لا يعني بخلاصة القراءة بعد التوافق على التشخيص إلا أن خطبة العرش ظهر الاثنين أجابت عن السؤال الذي يؤرق المواطنين عموماً بعنوان: كيف سنتصرف وما الذي ينبغي أن نفعله في مواجهة زحف السيناريو الإسرائيلي؟
الجواب قد لا يعجب أصحاب الخطابات الشعبوية، وقد يبدو أنه مغرق في الاعتدال، في وقت يريد الجمهور فيه التطرف. لكنه بكل حال جواب صفق له الحضور تحت قبة البرلمان ويعد الأردنيين عموماً بأن حكومتهم ومؤسساتهم لن تجازف بدولتهم ومستقبلها، وبالقدر ذاته تتمسك بالثوابت المعلنة والمبادئ، بما في ذلك التصدي العميق والمنتج لأي سيناريو يفترض تصدير الأزمة الفلسطينية وتشخيصها بأنها أردنية.
«القدس العربي»