اغتراب الروح وتوهان العقل وهواجس الكرامة وصراع الماضي والحاضر والمستقبل
أن تكون لاجئًا في وطنك، هو أن تعيش حالة من التناقض المؤلم المؤذي، حيث تنتمي إلى الأرض، لكنها تنكر حقك في الأمان والكرامة. أن تعيش على تراب تعرفه جيدًا، لكنه لا يعرفك. هذا الإحساس الذي يغمر الأردنيين في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية متلاحقة، يجعل الوطن يبدو أحيانًا أشبه بغريب، تمامًا كما وصف محمود درويش في قصيدته:
"وأنا اللاجئ، واللاجئ لا شيء سوى الريح تأخذه إلى الريح، والريح نسيان"
وفي التاريخ الأردني تاريخ حافل من الأزمات والانتماء وان الأردن بحكم موقعه الجغرافي والتاريخي كان دائمًا في قلب أزمات إقليمية أثرت بشكل كبير على واقعه الداخلي. من نكبة 1948، التي فتحت أبوابه لمئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، إلى نكسة 1967، التي عمقت أزمة الهوية والموارد. وعلى الرغم من استضافة الأردن لهؤلاء اللاجئين، كان على المواطن الأردني أن يتحمل تبعات اقتصادية واجتماعية ثقيلة أثرت على جودة حياته واقتصاده وبيئته الاستثمارية
هذه الأزمات لم تتوقف عند حدود الماضي، بل استمرت مع قدوم اللاجئين العراقيين بعد الغزو الأمريكي عام 2003، وأزمة اللاجئين السوريين التي بدأت عام 2011. في كل مرة، كان المواطن الأردني يجد نفسه في صراع مع واقع يزداد قسوة. ومع ذلك، كان هناك دائمًا شعور بالكرم والترحيب، لكن إلى متى يستطيع الكرم وحده أن يصمد أمام أعباء الحياة؟
حين يصبح المواطن لاجئًا في أرضه وان هذا التاريخ المليء بالأزمات خلق شعورًا مزدوجًا لدى الأردنيين: الفخر بكون وطنهم ملاذًا، والغضب من واقع يجعلهم يشعرون وكأنهم غرباء في وطنهم.
يقول الشاعر أبو العلاء المعري:
"فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل"
وكأن هذا البيت يلخص حال المواطن الذي يقاوم يأسه اليومي، ويحاول التمسك بكرامته في مواجهة واقع يزداد تعقيدًا.
الأزمات الاقتصادية، كارتفاع نسبة البطالة وتزايد تكلفة المعيشة، أصبحت تضغط على المواطن البسيط. فالعدالة الاجتماعية تبدو بعيدة المنال، والفجوة بين الطبقات تتسع يومًا بعد يوم. هذا الواقع يجعل المواطن يشعر وكأنه يعيش في "منفى داخلي"، لا يختلف كثيرًا عن شعور اللاجئ الذي يبحث عن مكان يحتويه.
احتجاجات الكرامة وفيها من أبرز المحطات التي تُظهر هذا الشعور العميق بالاغتراب والاحتجاج على الظلم، كانت احتجاجات عام 1989 التي عُرفت بـ"هبة نيسان". تلك الهبة الشعبية جاءت كرد فعل على سياسات التقشف ورفع الأسعار، وكانت صرخة من المواطن الأردني ضد الظلم الاقتصادي والاجتماعي. ومرة أخرى، تكررت الاحتجاجات في 2011 مع موجة الربيع العربي، حين خرج الأردنيون يطالبون بالعدالة وتحسين ظروف المعيشة.
هذه المحطان التاريخية تعكس حاجة المواطن إلى وطن يحتضنه حقًا، وطن يشعر فيه بأنه شريك في القرارات التي تؤثر على حياته، لا مجرد متفرج عليها.
هل يمكن للأمل أن يعود؟ بين الماضي والمستقبل
رغم قسوة الواقع، يبقى السؤال: هل يمكن أن يتغير هذا الشعور؟ هل يمكن أن يستعيد المواطن الأردني إحساسه بالانتماء الحقيقي لوطنه؟
يقول أبو الطيب المتنبي:
"إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ"
ربما يحمل هذا البيت دعوة للأردنيين إلى التمسك بالأمل والعمل نحو تغيير واقعهم. فالكرامة ليست مجرد شعار، بل حق يجب أن يناله كل فرد، سواء كان مواطنًا أو لاجئًا الوطن الحقيقي هو ذاك الذي يوفر لأبنائه العدالة والفرص والمساواة. في الأردن، هناك الكثير مما يمكن البناء عليه: روح التضامن، التاريخ العريق، والقدرة على مواجهة الأزمات. لكن هذا البناء يتطلب إرادة حقيقية من الجميع: حكومة وشعبًا، ليصبح الوطن مكانًا يحتضن الجميع، لا عبئًا على كاهلهم.
ولابد من العودة إلى الجذور حينما تدرك أن تكون لاجئًا في وطنك ليس قدرًا محتومًا، بل هو دعوة للتغيير. ربما يحمل التاريخ الأردني الكثير من التحديات، لكنه يحمل أيضًا الكثير من الدروس. وكما قال محمود درويش:
"سنصير شعبًا حين ننسى ما تقول لنا القبيلة"
ربما عندما نتجاوز الانقسامات والصراعات الداخلية، ونبدأ في بناء وطن يحتضن الجميع، سيختفي هذا الشعور القاتل بالاغتراب، وسيعود الأردن ليكون وطنًا حقيقيًا لكل من يعيش على أرضه.