اَلْكَاتِبَةُ : - هِبَةُ أَحْمَدَ الْحَجَّاجِ - مِنْ رَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ أَنْ تَسْتَيْقِظَ مِنْ النَّوْمِ مُفْعَمٌ بِالْحَيَاةِ ، هَادِئَ الْفِكْرِ ، تَصْنَعُ مَا تَشْتَهِي وَتَشْرَبُ مَا تُحِبُّ ، مِنْ الرَّفَاهِيَةِ أَنْ تَفْتَحَ الْكِتَابَ وَتَسْتَمِعَ إِلَى الْمُوسِيقَى الْمُفَضَّلَةِ ، تَرْسُمُ مَا يَجُولُ فِي خَيَالِكَ ، تَضْحَكُ مَعَ الْعَائِلَةِ وَتُحَادِثُ الْأَصْدِقَاءَ ، وَتَسْقِي نَبَاتَاتِكَ وَتَتَأَمَّلُ السَّمَاءَ . . أَنْتَ دَائِمًا مُحَاطٌ بِالنِّعَمِ دُونَ أَنْ تَشْعُرَ .
صَبَّاحُ الْحَيَاةِ .
وَبَيْنَمَا أَسْتَمْتِعُ بِجَمَالِ الصَّبَاحِ ، وَكَأَنَّنِي أَكْثَرُ شَخْصٍ مَحْظُوظٍ بِالْعَالَمِ ، لِأَنِّي مُحَاطٌ بِآلَافِ النِّعَمِ ، فَمُنْذُ أَنْ أَصْبَحْتُ إِلَى أَنْ أَمْسَيْتُ وَأَنَا غَارِقٌ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَأَفْضَالِهِ الْعَظِيمَةِ عَلَيَّ ، نِعَمْ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ ، صِحَّةٌ فِي الْجَسَدِ ، أَهْلٌ وَأَحْبَابٌ وَأَمْنٌ وَأُمْآنُ ، سَعَةٌ فِي الرِّزْقِ وَوَفْرَةُ الْمُؤَنِ ، فَاحْمَدْ اللَّهَ عَلَى مَا وَهَبَ وَأَجْزَلَ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا .
رَنَّ جَرَسَ الْهَاتِفِ وَإِذْ أَسْمَعُ صَوْتًا يَقُولُ لِي : - جَارٍ كَيْفَ الْحَالُ ؟ هَلْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ تُوَصِّلَنِي مَعَكَ فِي طَرِيقِكَ إِلَى عَمَلِي ؟ إِذَا تَكَرَّمْتَ طَبْعًا . .
فَوَافَقْتُ عَلَى الْفَوْرِ وَقُلْتُ لَهُ عَلَى الرَّحْبِ وَالسَّعَةِ .
وَسَارَعْتُ عَلَى الْفَوْرِ وَاسْتَقْلَيْتُ سَيَّارَتِي وَانْتَظَرْتُهُ وَعِنْدَمَا أَتَى وَفَتَحَ بَابَ السَّيَّارَةِ نَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَةً مَمْزُوجَةً بِالِاسْتِغْرَابِ وَالتَّمَنِّي ثُمَّ ضَحِكَ ضِحْكَةً مُصْفَرَّةً وَقَالَ : - عَالِمٌ بِتَرْكَبْ سَيَّارَاتٍ وَاللَّهُ مُنَعِّمٌ وَمُفَضَّلٌ عَلَيْهَا وَعَالِمٌ يَا دُوبَهَا مَعَهَا حَقُّ أُجْرَةِ التِّكْسِي ، صَبَاحُ الْخَيْرِ جَارْ هَهْهَهْهْهَهَهَهَهْ .
نَظَرْتُ إِلَيْهِ مُسْتَغْرِبًا وَ قُلْتُ فِي نَفْسِي : لَا بُدَّ أَنَّهُ يُمَازِحُنِي ، ابْتَسَمْتُ ابْتِسَامَةً تَعْلُوهَا الدَّهْشَةُ ثُمَّ قُلْتُ : - صَبَاحُكَ وَرْدٌ وَخَيْرٌ وَنَعِيمٌ جَارٍ !
وَبَيْنَمَا كُنَّا نَتَبَادَلُ الْأَحَادِيثَ عَنْ ظُرُوفِ الْحَيَاةِ وَكَيْفِيَّةِ التَّعَايُشِ مَعَهَا ، اسْتَوْقَفَتْنَا إِشَارَةُ الْمُرُورِ ذَاتُ اللَّوْنِ الْأَحْمَرِ ، لَفَتَ نَظَرِي جَارِي الَّذِي يَجْلِسُ بِجَانِبِي يَنْظُرُ مِنْ خِلَالِ نَافِذَةِ السَّيَّارَةِ بِطَرِيقَةٍ مُثِيرَةٍ لِلدَّهْشَةِ ، يَنْظُرُ مِنْ هُنَا تَارَةً وَمِنْ هُنَاكَ تَارَةً أُخْرَى ، حَيْثُ أَنَّهُ أَثَارَ فُضُولِي لِدَرَجَةِ أَنَّنِي أَعْتَقَدْتُ أَنَّهُ قَدْ اسْتَشْبَهَ بِإِنْسَانٍ يَعْرِفُهُ ، لَالَحْظَةَ الَّتِي قَالَ فِيهَا : - اُنْظُرْ يَا جَارُ إِلَى هَذِهِ السَّيَّارَةِ الْفَارِهَةِ ، أَتَعْلَمُ أَنَّ بَنْزِينَ هَذِهِ السَّيَّارَةِ بِلَا مُبَالَغَةٍ قَدْ يَكُونُ نِصْفَ رَاتِبِنَا هَهْهَهَهَهَهَهْ ، وَلِلْأَمَانَةِ شَعَرْتُ بِالدَّهْشَةِ وَتَسَاءَلْتُ كَيْفَ يُفَكِّرُ هَذَا الشَّخْصُ ! ؟ وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَرَّ مِنْ أَمَامِنَا رَجُلٌ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ مُتَحَرِّكٍ ، نَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقُلْتُ : - انْظُرْ يَا جَارُ وَتَمَعَّنْ بِالنَّظَرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَنَّنَا مَا زِلْنَا نَمْشِي عَلَى أَقْدَامِنَا ، لَدَيْكَ قَدَمَيْنِ لِتَسِيرَ بِهِمَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَلِتَطُوفَ بِهِمَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ ، وَنَسْعَى بِهِمَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَتَصْعَدُ بِهِمَا عَلَى عَرْفَاتٍ وَتَقِفُ بِهِمَا هُنَاكَ ، وَتَبْتَعِدُ بِهِمَا عَمَّنْ يُرِيدُ إِيذَاءَكَ وَتَهْرُبُ بِهِمَا عِنْدَمَا يَحْدُثُ الْخَطَرُ .
إِنَّكَ تَذْهَبُ بِهِمَا كُلَّ يَوْمٍ إِلَى عَمَلِكَ وَوَظِيفَتِكَ ، وَتَعُودُ وَلَاتَشْعُرُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ ، وَلَمْ تُفَكِّرْ يَوْمًا فِيمَنْ حُرِمُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ ، وَكَيْفَ أَصْبَحُوا يَعِيشُونَ حَيَاتَهُمْ ؟ فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ وَهُمْ يَزْحَفُونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ بَيْنَ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ ، وَقَدْ لَبِسُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ مَايِقِيهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ ! !
رَبْتُ عَلَى كَتِفِهِ وَنَظَرْتُهُ لَهُ بِنَظْرَةٍ حَنُونَةٍ وَقُلْتُ لَهُ : - جَارِي الْعَزِيزَ لَا تَجْعَلْ هَمًّا وَاحِدًا يُنْسِيكَ أَلْفٌ مِنْ النِّعَمِ .
شَعَرْتُ لِوَهْلَةٍ أَنَّهُ يَسْتَيْقِظُ مِنْ غَفْلَتِهِ كَإِنْسَانٍ صَحِيحِ الرَّجْلَيْنِ بَعْدَ هَذَا لِيَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ ، قَبْلَ أَلَّا يَذْكُرَ قَدْرَهَا إِلَّا بَعْدَ إِصَابَتِهِ بِهَا ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ لِلْجَمِيعِ . ، نَظَرَ إِلَيَّ وَتَكَلَّمَ بِكُلِّ ثِقَةٍ ثُمَّ قَالَ : - حَتَّى لَوْ كَانَ كَذَلِكَ ، سَنَذْهَبُ إِلَى مُسْتَشْفَيَاتٍ خَمْسِ نُجُومٍ كَمَا يَقُولُونَ وَنَتَعَالَجُ وَسَنَرْجِعُ كَمَا كُنَّا وَأَفَضِّلُ أَيْضًا .
شَعَرْتُ لِوَهْلَةٍ انْ جَلْسَةً وَاحِدَةً مَعَهُ أَرْهَقَتْنِي نَفْسِيًّا ، فَهُوَ يَرَى الْأُمُورَ بِسَوْدَاوِيَّةٍ مُحْبِطَةٍ .
نَظَرْتُ لَهُ وَكَانَتْ مَلَامِحُ وَجْهِي يَعْلُوهَا الْبُؤْسُ وَالْإِحْبَاطُ وَقُلْتُ : - أَتَعَلَّمُ ، وَعْكَةٌ صِحِّيَّةٌ تُذَكِّرُكَ كَمْ أَنَّكَ غَارِقٌ فِي النِّعَمِ ، فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَكُلِّ ثَانِيَةٍ ، نَعَمْ فِي جَسَدِكَ وَسَمْعِكَ ، وَبَصَرِكَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى مُمَارَسَةِ مَا تُفَضِّلُ ، وَالتَّمَتُّعِ بِتَذَوُّقِ الطَّعَامِ ، وَاسْتِنْشَاقِ الرَّوَائِحِ ، وَالْحَدِيثِ وَالضَّحِكِ مَعَ مَنْ تُحِبُّ ، النَّوْمُ بِرَاحَةٍ وَالِاسْتِيقَاظُ بِكَامِلِ عَافِيَتِكَ .
وَعَكَّةٌ صِحِّيَّةٌ تُخْبِرُكَ أَنْ تَحْمَدْلُلَهُ عَلَى كُلِّ النِّعَمِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ !
سَكْتَ بُرْهَةٍ مِنْ الزَّمَنِ شَعَرْتُ لِلَحْظَةٍ أَنَّهُ يَقُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ : - مَا هَذَا الْجَارُ الْفَيْلَسُوفُ ، الَّذِي يُلْقِي النَّصَائِحَ وَالْكَلَامَ الْمُنَمَّقَ وَالْوَعْظَ وَالِارِّشَادَاتِ ! ؟ ثُمَّ أَرْدَفَ قَائِلًا : -
لَوْ تَعْلَمْ يَا جَارِي الْعَزِيزَ مَنْ رَأَيْتَ بِالْأَمْسِ ، شَخْصٌ لَنْ يَخْطُرَ عَلَى بَالِكَ ؟ ! تَعْرِفُ لِمَاذَا ؟ ! لِأَنَّهُ شَخْصٌ لَا يَمْتَلِكُ ذَرَّةَ ذَوْقٍ وَفَجْأَةً أَصْبَحَ يَلْبَسُ وَيَتَهَنْدَمُ بِطَرِيقَةٍ غَرِيبَةٍ ، لَا وَ أُزِيدُكَ مِنْ الشَّعْرِ بَيْتًا ؛ مَلَابِسُهُ مَارْكَاتٌ هَهْهَهْهَهْ ، يَعْتَقِدُ هَذَا السَّاذَجُ أَنَّهُ إِذْ حَسَّنَ مِنْ مَظْهَرِهِ سَيُصْبِحُ إِنْسَانٌ لَهُ قِيمَةٌ ، حَسَنًا وَمَاذَا أَقُولُ أَنَا ، مِنْ دُونِ ذَلِكَ وَلِي قِيمَةٌ عَالِيَةٌ كَيْفَ لَوْ أَمْتَلَكْتُ رُبْعَ مِقْدَارِ مَلَابِسِهِ ! ! ! وَلَكِنْ كَمَا قُلْتُ لَكَ الدُّنْيَا حُظُوظٌ . .
ثُمَّ سَكَتَ لِوَهْلَةٍ وَقَالَ بِاسْتِغْرَابٍ ، نَعَمْ صَحِيحٌ تَذَكَّرْتُ أَيْضًا أَتَعَلَّمُ فُلَانَ الْفُلَانِيَّ الَّذِي يَحْمِلُ دَرَجَةَ دُكْتُورَاةٍ بِالتَّخَصُّصِ كَذَا ، لَوْ أَنَا كُنْتُ مَكَانَهُ وَحَصَلْتُ عَلَى نَفْسِ الدَّرَجَةِ مِنْ التَّعْلِيمِ ، كُنْتُ أَنَا لَيْسَ أَنَا بَلْ كُنْتُ شَخْصًا مُخْتَلِفًا تَمَامًا ، لَفَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ لَمْ يَسْتَفِيدْ مِنْهَا بِشَيْءٍ إِلَّا فَقَطْ أَنَّهُ يَمْتَلِكُ لَقَبَ كَذَا ، مَاذَا سَنَفْعَلُ كَمَا قُلْتُ لَكَ مِنْ قَبْلُ الدُّنْيَا حُظُوظٌ . .
قُلْتُ فِي نَفْسِي : - لِلْأَسَفِ يُمْكِنُ الْعُثُورُ عَلَى الْحَسَدِ فِي أَيِّ مَكَانٍ تَقْرِيبًا ، وَهَذِهِ بِالطَّبْعِ حَقِيقَةٌ مُحْزِنَةٌ . وَيَنْشَأُ هَذَا الْخُلُقُ الذَّمِيمُ بِسَبَبِ الْإِحْسَاسِ الدَّاخِلِيِّ بِضَعْفِ الْإِنْسَانِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَحْقِيقِ مَا يُرِيدُهُ وَيَطْمَحُ إِلَيْهِ ، وَغَالِبًا مَا يَحْسَدُ الْأَشْخَاصُ عَلَى الْمَنَاصِبِ الْعُلْيَا وَالْأَوْسِمَةِ وَمَا يَمْتَلِكُونَ مِنْ ثَرْوَةٍ وَسُمْعَةٍ مَرْمُوقَةٍ فِي حَيَاتِهِمْ ، مِمَّا يَجْعَلُ نَفْسَ الْحَاسِدِ تُوَلِّدُ حِقْدًا كَبِيرٌ وَدَنَاءَةً فِي طَبِيعَتِهِ .
ثُمَّ نَظَرْتُ لَهُ وَقُلْتُ : -
أَشْعُرُ يَا جَارِي الْعَزِيزَ بِأَنَّكَ مَهْمُومٌ ؟ هَلْ يُثْقِلُكَ الْهَمُّ وَيَضِيقُ صَدْرُكَ ؟ أَمْ أَنَّكَ تَرَى نَفْسَكَ فَقِيرًا أَوْ مَحْرُومًا ؟ تَوَقَّفْ لِلَحْظَةٍ وَانْظُرْ حَوْلَكَ هُنَاكَ مَنْ يَنَامُ عَلَى الْأَرْصِفَةِ ، وَهُنَاكَ مَنْ لَا يَجِدُ قُوتَ يَوْمِهِ ، وَهُنَاكَ مَنْ حُرِمَ مِنْ نِعْمَةِ الصِّحَّةِ أَوْ الْأَمْنِ أَوْ الْعَائِلَةِ .
تَأَمَّلُ حَالِ مَنْ هُمْ أَقَلُّ مِنْكَ ، وَسَتَجِدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِنِعَمٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى . رُبَّمَا تَغْفَلُ عَنْهَا وَسَطَ هُمُومِ الدُّنْيَا ، لَكِنَّ الْحَقِيقَةَ أَنَّهَا تُحِيطُ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ .
قُلْ : اَلْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَاجْعَلْهَا نَبْضَ قَلْبِكَ وَلِسَانِكَ . اَلشُّكْرُ يُعِينُكَ عَلَى اَلصَّبْرِ ، وَيَزِيدُكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، فَهُوَ اَلْقَائِلُ :
لَئنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [ إِبْرَاهِيمَ : 7 ] .
شَعَرَتْ لِلَحْظَةٍ أَنَّهُ أُصِيبَ بِتَشَنُّجٍ وَعَصَبِيَّةٍ بَالِغَةٍ .
رَفَعَ كَتِفَيْهِ احْتِجَاجًا وَنَظَرَ بِعُيُونٍ مُسْتَنْكِرَةٍ وَ وَجْهٍ عَابِسٍ ، مَرَّتْ الدَّقَائِقُ مُتَثَاقِلَةً كَأَنَّهَا السَّاعَاتُ ، كَانَ الدَّمُ يَغْلِي فِي عُرُوقِهِ وَيَكَادُ يَنْفَجِرُ مِنْ عَيْنَيْهِ الْمُحَمَّرَتَيْنِ .
أَضْجَرَنِي صَمْتُهُ وَكَانَتْ أَعْصَابُهُ تَلْتَهِبُ ضَجَرًا وَغَضَبًا وَيَتَأَقَّفُ وَيَتَذَمَّرُ كَانَ يُلَامِسُ أَزْرَارَ سُتْرَتِهِ مَرَّهُ وَ يَتَصَفَّحُ هَاتِفَهُ الْجَوَّالَ فِي مَلَلٍ وَاضِحٍ وَ نَفَاذِ صَبْرٍ .
قُلْتُ لَهُ مُمَازِحًا : - جَارِي الْعَزِيزَ تَحْتَاجُ مُعَلَّقَةً مِنْ الزَّيْتِ .
نَظَرَ إِلَيَّ مُنْدَهِشًا وَقَالَ : - تُعْطِينِي مُعَلَّقَةً مِنْ زَيْتٍ فَقَطْ ! مَا هَذَا الْبُخْلُ يَا جَارُ ؟ ! أَنْتَ كَرِيمٌ وَاحْنَا بِنِسْتَاهِلْ ، لَوْ تُعْطِينَا تَنْكَةَ زَيْتٍ أَفْضَلَ وَأَفْضَلُ هَهْهَهَهْ .
قُلْتُ لَهُ مُبْتَسِمًا : - مِلْعَقَةٌ مِنْ الزَّيْتِ قِصَّةُ هَهْهَهَهَهْ . . . مِنْ رَوَائِعِ الْأَدَبِ الْعَالَمِيِّ :
يَحْكِي أَنَّ تَاجِرًا كَانَ لَدَيْهِ ابْنٌ يَشْكُو مِنْ التَّعَاسَةِ وَلِكَيْ يُعَلِّمَهُ مَعْنَى السَّعَادَةِ ، أَرْسَلَهُ لِأَكْبَرِ حَكِيمٍ مَوْجُودٍ بِذَلِكَ الزَّمَانِ .
وَحِينَ وَصَلَ لِقَصْرِ الْحَكِيمِ وَجَدَهُ فَخْمًا وَعَظِيمًا وَكَبِيرًا مِنْ الْخَارِجِ . وَحِينَ دَخْلِهِ
سَأَلَ الْحَكِيمُ : هَلْ لَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِسِرِّ السَّعَادَةِ ؟
فَرَدَ الْحَكِيمِ : أَنَا لَيْسَ لَدَيَّ وَقْتٌ لِأُعَلِّمَكَ هَذَا السِّرَّ وَلَكِنْ اخْرُجْ وَتَمَشِي بَيْنَ جَنَبَاتِ هَذَا الْقَصْرِ ثُمَّ ارْجِعْ لِي بَعْدَ سَاعَتَيْنِ .
وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِلْعَقَةً بِهَا قَلِيلٌ مِنْ الزَّيْتِ وَ
قَالَ لَهُ : ارْجِعْ لِي بِهَذِهِ الْمِلْعَقَةِ ، وَاحْرِصْ عَلَى أَلَّا يَسْقُطَ مِنْهَا الزَّيْتُ !
فَخَرَجَ الشَّابُّ وَطَافَ بِكُلِّ نَوَاحِي الْقَصْرِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْحَكِيمِ .
فَسَأَلَهُ : هَلْ رَأَيْتَ حَدِيقَةَ الْقَصْرِ الْجَمِيلَةَ الْمَلِيئَةَ بِالْوُرُودِ ؟
قَالَ الشَّابُّ : لَا ! !
فَسَأَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى : هَلْ شَاهَدْتَ مَكْتَبَةَ الْقَصْرِ وَمَا فِيهَا مِنْ كُتُبٍ قَيِّمَةٍ ؟
فَرَدَ الشَّابُّ : لَا ! !
فَكَرَّرَ الْحَكِيمُ سُؤَالَهُ : هَلْ رَأَيْتَ التُّحَفَ الرَّائِعَةَ بِنَوَاحِي الْقَصْرِ ؟ ؟
فَأَجَابَ الشَّابُّ : لَا ! !
فَسَأَلَهُ الْحَكِيمُ : لِمَاذَا ؟
فَرَدَ الشَّابُّ : لِأَنَّنِي لَمْ أَرْفَعْ عُيُونِي عَنْ مِلْعَقَةِ الزَّيْتِ خَشْيَةَ أَنْ يَسْقُطَ مِنِّي . . فَلَمْ أَرِي شَيْءٌ مِمَّا حَوْلِي بِالْقَصْرِ ! !
فَقَالَ لَهُ الْحَكِيمُ :
ارْجِعْ وَشَاهِدْ كُلَّ مَا أَخْبَرْتُكَ عَنْهُ وَعُدْ إِلَيَّ .
فَفَعَلَ الشَّابُّ مِثْلَ مَا قَالَ الْحَكِيمُ وَشَاهَدَ كُلَّ هَذَا الْجَمَالِ وَرَجَعَ إِلَيْهِ .
فَسَأَلَهُ الْحَكِيمُ :
قُلْ لِي مَاذَا رَأَيْتَ ؟
فَانْطَلَقَ الشَّابُّ يَرْوِي مَا رَآهُ مِنْ جَمَالٍ وَهُوَ مُنْبَهِرٌ وَسَعِيدٌ .
فَنَظَرَ الْحَكِيمُ لِمِلْعَقَةِ الزَّيْتِ بِيَدِ الشَّابِّ فَوَجَدَ أَنَّ الزَّيْتَ سَقَطَ مِنْهَا .
فَقَالَ لَهُ الْحَكِيمُ :
انْظُرْ يَا بُنَيَّ . . هَذَا هُوَ سِرُّ السَّعَادَةِ .
فَنَحْنُ نَعِيشُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا . . وَحَوْلَنَا الْكَثِيرُ مِنْ نِعَمِ رَبِّنَا لَنَا . وَلَكِنَّنَا نَغْفُلُ عَنْهَا وَلَا نَرَاهَا وَلَا نُقَدِّرُهَا لِإِنْشِغَالِنَا عَنْهَا بِهُمُومِنَا وَصَغَائِرِ مَا فِي الْحَيَاهِ .
اَلسَّعَادَةُ يَا بُنَيَّ أَنْ تُقَدِّرَ النِّعَمَ وَتَسْعَدَ بِهَا وَتَنْسَى مَا أَلَمَّ بِكَ مِنْ هُمُومٍ وَ مَشَاكِلَ مِثْلِ مِلْعَقَةِ الزَّيْتِ . . نَسِيتَهَا حِينَ إِلْتَفَتْ لِلنِّعَمِ مِنْ حَوْلِكَ فَسَقَطَ الزَّيْتُ ! !
أَحْيَانًا ، كُلُّ مَا نَحْتَاجُهُ هُوَ لَحْظَةُ تَأَمُّلٍ نُعِيدُ فِيهَا اكْتِشَافَ مَا لَدَيْنَا ، وَنَشْعُرُ بِقِيمَةِ النِّعَمِ الَّتِي تُحِيطُ بِنَا .
أَتَعَلَّمْ يَا جَارِي الْعَزِيزَ ، مَا رَأْيُكَ أَنْ نَقُومَ بِتَجْرِبَةٍ أَنَا وَأَنْتَ ؟
نَظَرَ إِلَيَّ بِاسْتِغْرَابٍ : - تَجْرِبَةٌ ! ! قُلْتُ لَهُ : - نَعَمْ نَعَمْ هَذِهِ التَّجْرِبَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَدْرِيبَاتٍ تَعْدَادِيَّةٍ ، أَيْ بِمَعْنَى تَعْدَادَاتٍ لِتَحْفِيزِ الِامْتِنَانِ : -
مَثَلًا ،
١ . عَدَدُ ثَلَاثِ نَعَمْ مَوْجُودَةٌ حَوْلَكَ الْآنَ دُونَ أَنْ تَتَحَرَّكَ مِنْ مَكَانِكَ .
2 . عَدَدُ ثَلَاثِ نَعَمْ تَتَعَلَّقُ بِجَسَدِكَ .
3 . عَدَدُ نِعْمَتَيْنِ تَغَيَّرَتَا لِلْأَفْضَلِ فِي حَيَاتِكَ خِلَالَ الْعَامِ الْمَاضِي .
4 . عَدَدُ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ كُنْتَ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا مُسْتَحِيلَةٌ لَكِنَّهَا أَصْبَحَتْ وَاقِعَكَ الْيَوْمَ .
5 . عَدَّدَ نِعْمَةً بَسِيطَةٍ تُكَرِّرُهَا كُلَّ يَوْمٍ ، وَقَرَّرَ أَنْ تَشْكُرَ اللَّهَ عَلَيْهَا بِصِدْقٍ فِي الْمَرَّةِ الْقَادِمَةِ .
جُرِّبُ أَنْ تُهْدِيَ نَفْسَكَ تَجْرِبَةً اسْتِثْنَائِيَّةً ، لِأَنَّ الشُّعُورَ الَّذِي سَتَعِيشُهُ بَعْدَهَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تُحَاوِلَ .
وَعِنْدَمَا أَوْصَلْتُهُ إِلَى مَكَانِ عَمَلِهِ ، قُلْتُ لَهُ : -
أَنْتَ مُحَاطٌ بِالنِّعَمِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لَا تَدَعْ مَايَحْدُثُ خَارِجَ الْمَسَارِ أَوْ مُخَالِفٌ لِخُطَطِكَ يُشْعِرُكَ أَنَّكَ تَعِيسٌ اسْتَشْعِرْ بِالنِّعَمِ لِتَدُومَ ، الْحَمْدَلِلَّهِ .
بِالسَّلَامَةِ جَارٌ ، أَتَمَنَّى أَنِّي كُنْتُ ضَيْفًا خَفِيفًا عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا . .