لم يشأ التاريخ بمعية الزمن أن يُغلق ملف هذا العام ، دون حدث صعب ومفاجىء على الشرق الأوسط يضاف إلى ملف التأزيم ، بل واحتمالية حدوثه ضئيلة ، خاصة مع توجه الأنظار والأضواء بكل ثقلها نحو الحرب في غزة ، حيث سقط نظام الأسد الذي يمثل نظاماً بعثياً صارماً وقمعياً بتوقيت بعيد عن ساحات التوقعات ، ونزالات المحللين وقصاصات أشباه الكتاب ..
بعد ستة عقود ونيّف دام فيها حكم حزب البعث بنسخته السورية ، يُسدل الستار على هذه الحقبة ، كقطعة من الماضي ، ورواية واقعية دامية انتهت لسلطة حكمت بالنار والحديد ، التهمت بدم بارد قوت المواطن السوري مئة مرة وحياته آلاف المرات ، واستأثرت بنظام أمني ومخابراتي صعب الأوصاف ، غير أنه على أقل تقدير ، يتمتع بكفاءة استثنائية عملت على تثبيت الوجود البعثي في سدة الحكم لعقود دون تخوفات حقيقية ، وسط هذا النظام البوليسي المعقد والعميق ، لم يكن لأحد أن يستطيع مواجهة هذا الطغيان.
بدم بارد كما ذكرت ، عمل هذا النظام على توريط الأبرياء ، واتهامهم بل وزجهم في غياهب المجهول ، بدون قضية ، ومن دون أي تهمة ، ولم يكن لهذا النظام الذي حمل شعار ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) ، بمعزل في شراسته ووحشيته عن أبرياء الأمة العربية ، فإضافة إلى آلاف الأبرياء من الشعب السوري الذين تم الإفراج عنهم ، بعد أن كانوا تحت رحمة مخالب الأسد ، في سجون نظامه اللا إنسانية ، تفجرت مئات ولربما الآف من القصص المأساوية لحالات قيدت ما بين مفقود ومعتقل لرجال ونساء وأطفال من عدة دول عربية ، وغالبيتها إن لم يكن جميعها تشترك بنفس البداية ، فُقد على الحُدود فور دخوله الأراضي السورية .
برع هذا النظام ، في تجريد الإنسان أنى تكن هويته وعرقه وجنسيته وديانته ، من أول وأهم معرف له ألا وهو الاسم ، فالسجين في سوريا يصبح رقماً ، مجرداً من الاسم والتهمة والقضية ، وإلى أجل غير مسمى يقبع في ظلمات سجون مبنية تحت الأرض ، وبطرق تعذيب يتفرد بها هذا النظام في واقع لا يعاش ولا يفسر .
والجدير بالذكر أن في سوريا حدثت الكثير من الانقلابات العسكرية التي انتهت بتسلم السلطة منذ استقلالها ، حيث كان أول انقلاب عسكري في عام 1949م بقيادة العقيد حسني الزعيم ضد الحكومة ، وتوالت الانقلابات حتى وصل حزب البعث إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1963 م وتسلم على إثره الحكم .
بعد تولي حزب البعث بقيت السلطة في سوريا تؤخذ بطريقة الانقلاب ولكن تم تقنينها من انقلاب ضد الحكومة إلى انقلاب داخلي ( داخل الحزب فقط ) .
وما بين انقسام وانقلاب من تخبطات وتصفيات داخل حزب البعث السوري وصل حافظ الأسد عام 1970م ليتفرد وعائلته ذات الانتماء العلوي بحكم الدولة ، ويصبح رئيساً لها بالقوة ، وبأسلوب الدولة الأمنية التي لا تعرف الرحمة .
ولطالما سمعنا عن قصص مؤلمة من واقع الحياة في سوريا ، من ترهل حاد للمؤسسات ، وفساد الأجهزة التي يرعاها النظام البائد ، ناهيك عن أساليب خطيرة في التجسس ، وتلفيق التهم وغيرها ، وأذكر في سنوات سابقة أني قرأت في إحدى الكتب السياسية حيث كان الباب المعنون ( ما لم تنشره الصحف ) : عن أن حافظ الأسد كان لديه فريق متخصص من الأطباء أشبه ب ( كونسلتو ) فقط لسحب الدماء من الأطفال حديثي الولادة بصورة مستمرة ، وبالإكراه رغماً عن ذويهم ، حيث كان يجدد دمه فقط من أجساد الأطفال المختارين بعناية من فئة حديثي الولادة حصراً طوال فترة مرضه.
وبعد أن تسلم ابنه بشار الأسد السلطة بالوراثة وبتعديل مفاجىء للدستور ، وبمرور عقد واحد على حكمه تفجرت الأزمة السورية بكل قوتها ، ومن دعوات جادة من قبل المعارضة لتحقيق إصلاحات عاجلة الأمر الذي نتج عنه ؛ الاصطدام أكثر مع الشعب والاعتقال التعسفي والتهجير ، وبل وتعدى الأمر إلى القصف في مرحلة متقدمة من الخلاف ، حتى خرج الملايين من سوريا تحت مظلة اللجوء لدول عربية مجاورة وأخرى غربية ، حيث بلغ عدد اللاجئين حول العالم ما يزيد عن ستة ملايين لاجىء سوري ، أما النازحين في الداخل السوري ففاق عددهم الإثني عشر مليوناً من الشعب السوري.
ولأن نظام عائلة الأسد كان يحظى بتقاربات لافتة وعميقة مع كل من النظام الروسي والإيراني حيث كانت هذه العلاقات تحمل كل أشكال الدعم السياسي والعسكري ، فعلاوة على صموده الداخلي بالنظام الأمني القاسي ، استطاع - بصداقاته - أن يبقى صامداً وسط هذه الفوضى ودعوات الحرية أمام العالم الخارجي ، ولم تكن الصداقة تلك وليد اللحظة أو أحادية المنفعة ، بل تحظى ايران بانتفاعات خاصة وتكسبات استراتيجية في العمق السوري ، وذلك بمبايعة ورعاية أسدية ، كما ويحظى النظام الروسي كذلك الأمر بنفوذ عسكري في المنطقة عبر قواعده العسكرية المتواجدة في مواقع عديدة داخل حدود الدولة السورية.
وبعد انتهاء حكم الأسد الابن الذي دام لعقدين ونصف تقريباً ، وبطريقة كلاسيكية ذبلت قوى القرار السياسي والعسكري المنتمية للنظام ، وتبخرت قياداته العليا بطريقة غامضة ، ورحل إلى روسيا الصديق الأقرب للعائلة والنظام ، باحتمال قوي النسبة أنه تم التحفظ عليه في ساعاته الأخيرة في سوريا وإعلان ايقاف الدعم لنظامه نحو خلق واقع جديد للدولة السورية وانتهاء اللعبة وتبدل الأدوار .
وبعيداً عن كل ما يُحاك في أروقة الغرف السياسية الرفيعة المستوى ، فإن هذا لا يلغي حقيقة أن الأزمة السورية انتهت بثورة حرة هتف بها السوريون جميعهم في الداخل والخارج ، ولكن هذه الثورة تحتاج الاحتواء للوصول بسوريا إلى بر الأمان بعيداً عن كل سماسرة التقسيم.
ومن ملاحظة جميع الأحداث أعتقد بأن الشعب السوري أكثر تقارباً في أيامه القادمة ، وأن تجربة ( الحياة ما بعد حزب البعث ) بالنسخة السورية ستكون أقل قتامة ودموية عن شقيقه بالنسخة العراقية على الرغم من طول مدة الحكم للأخير هو الآخر ..
فداء المرايات