في ظل هذه الأزمة المركبة، يبدو أن النظام الإيراني أمام تحدٍ استراتيجي عميق يتجاوز مجرد الحفاظ على مكتسباته الداخلية والخارجية ، إذ أن التحولات التي يشهدها الإقليم، بما فيها الصراعات المتنامية بين القوى الكبرى وإعادة تشكيل التحالفات، باتت تفرض على طهران إعادة النظر في الأسس التي بنيت عليها استراتيجيتها منذ عام 1979 ، لجملة من الأسباب الطارئة ، جعلتها بين عدة خيارات وهي على النحو التالي :
أولاً، على المستوى الإقليمي، يتسارع تآكل النفوذ الإيراني في ساحات رئيسية مثل العراق، سوريا، ولبنان ، فالتغييرات في موازين القوى الإقليمية، بما في ذلك عودة بعض الدول العربية إلى ساحات النفوذ التقليدي، أصبحت تمثل تحدياً وجودياً لطهران التي كانت تعتمد على هذه المناطق كعمق استراتيجي وسياسي ، ما يعني أن إيران أمام خيار إعادة النظر بإستمراريتها بعيدا عن معطياتها السابقة ، والتي كانت تقتضي التوسع في المنطقة.
ثانياً، الضغوط الدولية المتزايدة، سواء من واشنطن وحلفائها أو من القوى الناشئة في آسيا، تدفع النظام الإيراني إلى حافة خيارات صعبة ، فمن جهة، تزداد العزلة الاقتصادية والسياسية بسبب العقوبات والضغوط الدبلوماسية، ومن جهة أخرى، تصاعدت الدعوات الدولية لإعادة التفاوض على البرنامج النووي الإيراني ودور طهران في زعزعة الاستقرار الإقليمي ، وهذا يشي بأن استمرارية النظام مرهونة بإعادة النظر في البرنامج النووي كاملاً .
الخيار الثالث: إصلاح الداخل لمواجهة الخارج ، وأمام هذه الخيارات المعقدة، يبدو أن أحد السيناريوهات الممكنة هو أن يعمد النظام الإيراني إلى تعزيز استقراره الداخلي عبر إصلاحات حقيقية على المستويين السياسي والاقتصادي ، ويمكن أن تشمل هذه الإصلاحات :
1. تحقيق مصالحة وطنية: من خلال فتح قنوات حوار مع المعارضة الداخلية وتخفيف القبضة الأمنية، ما قد يساعد في تهدئة الاحتجاجات المتصاعدة وتحقيق تماسك اجتماعي أكثر استقراراً.
2. إصلاح اقتصادي جذري: يهدف إلى معالجة الاختلالات الكبيرة في بنية الاقتصاد الإيراني، بدءاً من مكافحة الفساد إلى تعزيز الاستثمارات المحلية وتقليل الاعتماد على العوائد النفطية المتذبذبة.
3. إعادة تعريف السياسة الخارجية: عبر التركيز على تحسين العلاقات مع الجيران الإقليميين والانفتاح على مبادرات الوساطة الدولية، ما قد يساعد في تخفيف الضغوط الخارجية والحفاظ على مساحة مناورة أوسع .
إلا أنه ورغم ذلك، قد يجد النظام نفسه مضطراً للتعامل مع أسوأ السيناريوهات في حال فشل الإصلاح أو تصاعد الضغوط الخارجية والداخلية إلى مستويات غير مسبوقة ، وفي هذه الحالة، ستتجه إيران نحو خيارات حادة ، مثل :
حرب شاملة: قد تندفع طهران نحو تصعيد عسكري كبير في محاولة لحماية نفوذها الخارجي أو استعادة هيبتها الإقليمية ، ولكن هذا الخيار يحمل مخاطر كارثية على الداخل الإيراني من حيث الخسائر البشرية والاقتصادية ، بالتالي قد تكون التنازلات القسرية اخف وطأة ، ويمكن أن تُجبر إيران على تقديم تنازلات دبلوماسية كبيرة، لكن لذلك ثمن حيث أن هذه الخطوة تضعف النظام أمام قاعدته الشعبية وتؤثر على شرعيته داخلياً وخارجياً ، و
في ظل كل هذه التحديات، يبقى مستقبل إيران معلقاً على قدرة النظام على التكيف مع التحولات الكبرى داخلياً وخارجياً ، وهل يمكن للنظام أن يعيد بناء شرعيته على أسس جديدة تتجاوز شعارات الثورة الإسلامية ؟!! وهل يستطيع إيجاد توازن مستدام بين مصالح الداخل وضرورات السياسة الخارجية؟!! وفي تقديرنا أن الإجابة عن هذه الأسئلة ستحدد ليس فقط مصير إيران، بل أيضاً مستقبل منطقة الشرق الأوسط بأسرها ، فطهران ليست مجرد لاعب إقليمي، بل هي محور مؤثر في توازنات القوى الدولية، وأي تحول في سياساتها أو بنيتها الداخلية ستكون له انعكاسات كبرى تتجاوز حدودها الجغرافية ، ولا شك أن النظام الإيراني يقف اليوم على مفترق طرق تاريخي ، وبينما تبدو الخيارات المتاحة محدودة، فإن اللحظة الراهنة قد تكون فرصة للنظام لإعادة صياغة دوره داخلياً وخارجياً على أسس أكثر واقعية واستدامة ، فهل يختار النظام طريق الإصلاح والتغيير ليولد من جديد، أم أنه سيظل متمسكاً بمسار المواجهة والتصعيد حتى النهاية؟!! الأيام القادمة وحدها ستكشف الإجابة عن هذا السؤال المصيري ... !! خادم الإنسانية .
مؤسس هيئة الدعوة الإنسانية والأمن الإنساني على المستوى العالمي .