خلال ورشة عمل مغلقة مع نخبة من القيادات الفلسطينية (عقدها معهد السياسة والمجتمع يوم السبت الماضي) رأى أغلب المشاركين أنّ إسرائيل القديمة انتهت اليوم، لم تعد قائمة، هنالك إسرائيل الجديدة «التوراتية»؛ في بنيتها الداخلية وفي علاقتها بالجوار. وبالرغم من أنّ «النسختين» تتأسسان على المشروع الصهيوني والاستيطان وتتغذيان على الأفكار الدينية الرمزية، لكن إسرائيل الجديدة لم يعد فيها مساحة كافية لأحزاب علمانية أو يسارية، كما كانت الحال سابقاً، هنالك تيار صهيوني ديني جارف، بدأ يسيطر على مؤسسات الدولة نفسها، وأصبح متغلغلاً داخل «الدولة العميقة» ذاتها، بل أضعف استقلاليتها وبات التيار المتطرف الديني والمستوطنين هم الرقم الأصعب في النسخة الحالية!
التنافس في إسرائيل اليوم هو بين اتجاهين يمينيين، متماهيين، وما هو أهم أنّ إسرائيل ما بعد «البنيامينية السياسية» (على حد توصيف الباحثة الشابة ميرنا السرحان)، أصبح بالنسبة لها كل ما يتعلق بالسلطة الفلسطينية والدولة وحل الدولتين مسألة من الماضي، لا أفقَ مستقبلياً لها، فهي تريد أرضاً بلا شعباً، مما يعني تصدير «المعضلة السكانية الفلسطينية» إلى دولٍ أخرى، والانتقال إلى مرحلة جديدة من مشروع «بناء إسرائيل» التاريخية من البحر حتى النهر، وربما أكثر!
هل فيما سبق كلامٌ مبالغً فيها كما قد يعتقد البعض؟! نأمل ذلك، لكن المؤشرات جميعاً تؤشر على أنّ هنالك مرحلة جديدة أكثر خطورة في التعامل مع المشروع الإسرائيلي- الصهيوني، ليس فقط (بالمناسبة) على صعيد القضية الفلسطينية بل الهيمنة الإقليمية، بخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار التفاهم والتحالف بين إدارة ترامب اليمينية الصهيونية واليمين الإسرائيلي، وهنالك إشارات إلى أنّ نتنياهو يريد إجراء انتخابات مبكّرة في إسرائيل لأنّه بات يعتقد بأنّ النتيجة لصالحه في ضوء ما يعتبره هو «انتصارات تاريخية» تحققت خلال الفترة الأخيرة!
السلوك الإسرائيلي تجاه سورية يكشف هذه الإدراك الجديد، فلم تتردد إسرائيل بتدمير السلاح السوري بالجمع والمفرد، حتى أنّها أصبحت تفتش عنه بيتاً بيتاً، وتوسّعت حتى سيطرت على مصادر المياه والمرتفعات الاستراتيجية المحيطة بدمشق وعلى مناطق واسعة في الجنوب، فضلاً عن النشاط الاستخباراتي الراهن، الذي تسعى من خلاله إلى زرع آلاف العملاء، وصولاً إلى الاتصالات السرية مع قوى مختلفة في سورية، والهدف ضمان عدم وجود أي دولة سورية قوية خلال المرحلة القادمة.
الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية القادمة ترتبط بمشروع «السلام الإقليمي»، وتظهير إسرائيل بوصفها قوة إقليمية منخرطة في مشروعات تطبيع شرق أوسطية، ولديها القدرة على بناء «معادلة ردع» فعّالة (وهي تهدد اليوم اليمن والعراق، وتسعى إلى ضرب المشروع النووي الإيراني، وربما إسقاط إيران من الداخل)، لكن ما هو أخطر من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية هي الهيمنة الثقافية، على حد تعبير انطونيو غرامشي، وهو أمر تسعى إليه إسرائيل ليس فقط بتغيير المناهج ومراقبة «الخطاب الديني»، بل عبر ضرب البنية السياسية الاستراتيجية في المنطقة، من زاوية، وعبر التربيط بينها وبين مشروعات اقتصادية من زاويةٍ ثانية.
هل مسألة التغيير الثقافي مستبعدة؟! أبداً، إذا وجدت ماكينات سياسية واقتصادية وإعلامية ودولانية في المنطقة، ولنرى كيف تمّ تحويل الكفاح الفلسطيني إلى سلطة محدودة، والأخيرة إلى فكرة «رواتب ووظيفة»، وكيف أنّ مئات الآلاف من العائلات اصبحت مرتبطة بحياتها اليومية بهذا المجال، وكيف أنّ أكثر من مئتي ألف فلسطيني كانوا يعملون في إسرائيل، وأعداد كبيرة من الغزيين سابقاً..
في المجمل المرحلة القادمة على صعيد إسرائيل وهويتها ودورها الإقليمي مختلفة تماماً عما سبق، وسيكون العام 2025 منعرجاً خطيراً في تاريخ الشرق الأوسط أو الوجه الجديد له!