زاد الاردن الاخباري -
لم تكن معايدة عادية تلك التي أطلقها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بمناسبة أعياد الميلاد على منصته للتواصل الاجتماعي “تروث سوشيال”.
أثارت هذه المعايدة عاصفة من التساؤلات والتخمينات عن مقاصد ترامب من خلال تلك السلسلة من الطموحات التوسعية التي أعلنها في وقت يستعد فيه للعودة إلى البيت الأبيض لبدء ولايته الرئاسية الثانية بعد فوزه بانتخابات الخامس من نوفمبر تشرين الثاني الماضي.
كرر ترامب ما قاله في ولايته الرئاسية الأولى وأثار وقتها الكثير من اللغط فيما يتعلق برغبته في شراء الجزيرة القطبية الأكبر من نوعها في العالم، “جزيرة غرينلاند”، التي تقع تحت سيطرة الدنمارك.
وكانت السلطات الدنماركية أعربت عن استنكار عرض ترامب وكذلك التأكيد على أن الجزيرة ليست للبيع، وكذلك فعل مسؤولوها المحليون.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد وقتها بل إن زيارة ترامب إلى الدنمارك ألغيت على خلفية تلك الأزمة التي أثارتها تصريحاته تلك.
ترامب لم يطرح فكرة مبتكرة لأن هذه الفكرة طرحت في وقت سابق من التاريخ الأمريكي مقابل أن تقوم الولايات المتحدة بمسح ديون دولة الدنمارك التي بلغت حينها سبعين مليون دولار.
وهناك رؤية استراتيجية في هذه القصة تعود إلى الأهمية الأمنية والدفاعية للجزيرة بالنسبة للأمن القومي الأمريكي، ولذلك فإن التصور السياسي له مبرراته العسكرية بصورة خاصة في الجزء المتعلق بالعلاقة التنافسية مع روسيا والمساهمة في تحقيق تفوق استراتيجي أمريكي آخر في مواجهة موسكو.
وكان عسكريون في البنتاغون قد اقترحوا الفكرة لشراء الجزيرة عام ألف وتسعمئة وأربعة وسبعين، وجعلها جزءاً من الوجود الأمريكي في القطب الشمالي بما توفره من قرب من عواصم أوروبية إضافة إلى روسيا.
وكان المبلغ المقترح هو مئة مليون دولار على شكل سبائك ذهبية، وظل هذا العرض سراً عسكرياً لسنوات عدة.
من الناحية التاريخية هناك سابقة أخرى في التاريخ الأمريكي عندما لجأت الولايات المتحدة إلى شراء الولاية القطبية ألاسكا في عهد الرئيس أندرو جونسون من روسيا عام ألف وثمانمئة وسبعة وستين، وهي اليوم جزء من الولايات المتحدة.
ولذلك ليس غريباً أن يعود ترامب إلى استدعاء التاريخ بهذه الفكرة، لكن الذي اختلف الآن هو إصرار ترامب حتى قبل عودته إلى البيت الأبيض هذه المرة على إعادة إحياء فكرة كان قد طرحها في ولايته الأولى ولقيت رفضا واستهجانا في الداخل والخارج.
كان واضحاً خلال آخر زيارة لوزير الخارجية الأمريكي الحالي أنتوني بلينكن للجزيرة في شهر مايو أيار العام ألفين وواحد وعشرين ذلك التصريح الرسمي الذي يقول إن الولايات المتحدة غير مهتمة تماماً بشراء الجزيرة، لكن يبدو أن هذا الموقف مرتبط بإدارة الرئيس جو بايدن، فيما يختلف الرأي بالنسبة للرئيس المنتخب وإدارته المقبلة.
غرينلاند لم تكن هي الأمنية التوسعية الوحيدة التي أطلقها ترامب في موسم الأعياد، بل أضاف إليها تلك الدعوة التي أطلقها في صيغة ممازحة لرئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو لدى استقباله على مائدة عيد الشكر في منتجعه العائلي بولاية فلوريدا أواخر شهر نوفمبر تشرين الثاني الماضي.
وقال ترامب يومها للمسؤول الكندي الأول إنه يرغب في أن يرى كندا الولاية الواحدة والخمسين للولايات المتحدة، لكن هذا الأمر حينها نُظر إليه على أنه لا يتعدى ملاطفة من رئيس منتخب للمسؤول الأول لدولة حدودية جارة وحليف تقليدي للولايات المتحدة.
ولو أن الزيارة كانت على خلفية التصريحات التي أطلقها ترامب برفع الضرائب على الواردات من كندا إلى بلاده بنسبة خمسة وعشرين بالمئة، وكذلك الأمر على واردات الجيران الجنوبيين في المكسيك.
ترامب عاد مرة أخرى إلى نفس المزحة لكنه كررها على موقعه للتواصل الاجتماعي عندما قال إن الضرائب في كندا مرتفعة جداً على مواطنيها وهم بانضمامهم إلى الولايات المتحدة سوف يحصلون على ضرائب منخفضة تفوق الخمسين بالمئة وكذلك سوف يكون لكندا حماية أمنية ودفاعية لن تتوفر لغيرها في أي مكان من العالم.
وأعاد ترامب الحديث مرة أخرى وفي نفس المناسبة عن سعيه لاستعادة السيطرة على بنما، وهي قضية أخرى لم تكن المرة الأولى التي يطرحها ترامب للنقاش أمام الرأي العام.
الرئيس المنتخب كان قد تحدث في أغسطس آب العام الماضي وخلال إطلاق حملته الانتخابية للرئاسة بأن الرئيس جيمي كارتر في سبعينيات القرن الماضي ارتكب خطأ تاريخياً بالتنازل عن قناة بنما بالكامل لصالح دولة بنما دون استفادة الولايات المتحدة من أية عوائد من أموال وأرواح جنودها الذين قضوا في سبيل بناء القناة بعد اتفاقية تسليم إدارتها بالكامل لدولة بنما بدءاً من العام ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين من القرن الماضي.
يعتقد ترامب أن بنما اليوم تفرض رسوماً عالية على السفن الأمريكية وهي تعبر القناة وهو أمر غير عادل من الناحية العملية إضافة إلى أن الصين كما يقول، إضافة إلى كونها المستفيد الأكبر من القناة، هي أيضاً تسيطر على القناة.
أثارت عودة ترامب إلى إحياء هذه التصريحات استهجاناً من قبل الديمقراطيين سواء في البيت الأبيض أو في الكونغرس، فيما يقول مستشاروه إن الرئيس المنتخب يرغب من خلال هذه التصريحات في جعل الولايات المتحدة في موقع تفاوضي أفضل عندما يبدأ رئاسته في العشرين من يناير كانون الثاني المقبل سواء تعلق الأمر بالعلاقة مع الصين أو بالعلاقة مع روسيا.
ويوضح مستشارو ترامب أن هناك الكثير من الملفات التي سوف يباشرها في مطلع رئاسته ومنها خاصة الحرب في أوكرانيا التي بات واضحا أن وجهة نظر الفريق الأمني لترامب تغيرت بشأنها عما كانت عليه خلال حملته الانتخابية.
من الناحية الاستراتيجية وجد أعضاء الفريق الأمني الانتقالي أن تساهلاً في المفاوضات مع روسيا سوف يجعل الموقف الأمريكي يظهر ضعفاً في طريق التسوية ولذلك اختار هؤلاء الاستمرار على الأقل في المرحلة الأولى في سياسة الرئيس بايدن بتقديم المساعدات المالية والعسكرية والدبلوماسية لأوكرانيا وبالموازاة مع ذلك البحث عن خيارات دبلوماسية بإمكانها أن تفضي إلى إنهاء الحرب كما يرغب ترامب.
هذه الرؤية الجديدة لفريق ترامب جعلت خيار الرئيس المنتخب في المرحلة الحالية هو العمل على إطلاق هذه التصريحات ذات الطابع التوسعي الاستراتيجي الذي يظهر طموحات توسعية أكبر لواشنطن إضافة إلى قدرتها على ضمان استمرار انتشارها الجغرافي والعسكري وتفوقها العالمي في ذلك خاصة أن الجزيرة تحوي قاعدة عسكرية أمريكية في الوقت الحاضر لكن طرح فكرة شرائها بالكامل سوف يعطي إشارات مختلفة تماماً عن الطموحات الأمريكية في المرحلة المقبلة.
الأمر كذلك في الصين التي ترى فيها الولايات المتحدة التهديد الأكبر لنفوذها العالمي ولذلك يقول المستشارون إن ترامب يستعد لخوض معركة اقتصادية مع بكين لذلك يريد أن يظهر طموحاً آخر في حضور أمريكي بارز أمنياً واستراتيجياً في منطقة المحيطين الهندي والهادي بإظهار هذه الرغبة والاستعداد لاستعادة السيطرة على قناة بنما.
وهذا الأمر سوف يعطي الولايات المتحدة اليد العليا على واحد من أكبر الممرات التجارية في العالم وهو ممر حيوي واستراتيجي بالنسبة لبكين.
بالنسبة لكندا فإن ترامب يرغب من خلال هذه التصريحات في إطلاق فكرة تحول الولايات المتحدة إلى قوة عالمية بلا منافسة على مستوى الحدود والموارد والانتشار بانضمام كندا إلى الولايات الأمريكية الخمسين، وهي فكرة وإن كانت غير منطقية الطرح ولكنها هي الأخرى تتماشى مع هذا السياق الذي يريد ترامب أن يبدأ به ولايته الرئاسية الثانية بإظهار أن الطموح الأمريكي لا يزال كبيراً في تحقيق المزيد من مناطق النفوذ في الجوار القريب والبعيد وأن الولايات المتحدة منتعشة في توسيع طموحاتها وبصورة غير مسبوقة في تاريخها الحديث.
هذه هي التفسيرات التي يقدمها فريق ترامب لهذه التصريحات التي تزامنت مع توقيت مركب فمن جانب جاءت في خضم الاحتفالات بأعياد الميلاد وبداية العام الجديد ومن جهة ثانية تزامنت مع مرحلة انتقالية في واشنطن بين إدارة انتقالية تستعد لمغادرة البيت الأبيض وإدارة انتقالية تستعد من جانبها إلى استلام السلطة بعد أقل من شهر من الآن ولكنها في كل حالاتها أكبر من أمنيات رئيس منتخب لعيد الميلاد بالقدر التي هي رسائل سياسية علنية في شكلها ومبطنة في معانيها والمقصودين بها.