تُشكل العلاقة بين أيرلندا وفلسطين نموذجاً استثنائياً من التضامن الإنساني والسياسي العابر للحدود ، فعندما قال رئيس وزراء أيرلندا السابق، ليو فارادكار، أمام الرئيس الأمريكي جو بايدن في مارس 2024 : "نرى تاريخنا بعيون الفلسطينيين"، لم تكن تلك مجرد كلمات عابرة، بل كانت انعكاساً لرؤية تاريخية وثقافية تتجذر في الوجدان الأيرلندي منذ عقود طويلة ، لقد عبّرت هذه الكلمات عن التزام أيرلندي طويل الأمد بمناهضة الاحتلال الإسرائيلي ودعم نضال الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية كافة ، وقد نشأت العلاقة بين أيرلندا وفلسطين من تجربة تاريخية مشتركة مع الاستعمار ،حيث عانى الشعب الأيرلندي لقرون من الاستعمار البريطاني، تماماً كما عانى الفلسطينيون من الاحتلال الإسرائيلي ، وفي القرن العشرين، حينما كانت أيرلندا تناضل من أجل استقلالها، كانت فلسطين تواجه الاحتلال البريطاني ثم الإسرائيلي ، وهذا التماثل بين التجربتين زرع تعاطفاً عميقاً ومستمراً بين الشعبين ، ففي أوائل القرن العشرين، شهدت أيرلندا احتلالاً بريطانياً قاسياً أفضى إلى قتل وتهجير ملايين الأيرلنديين، بينما كانت فلسطين تعاني تحت وطأة الانتداب البريطاني ، لاحقاً، حين واجه الفلسطينيون نكبة عام 1948 والتهجير القسري، رأى الأيرلنديون في تلك المأساة صدىً لمعاناتهم التاريخية ، ومع تصاعد الحركات المناهضة للاستعمار في منتصف القرن العشرين، تلاقت النضالات الوطنية في أيرلندا وفلسطين، لتؤسس لتحالف عميق على أسس إنسانية وسياسية ، وعُرفت أيرلندا بمواقفها القوية تجاه فلسطين، والتي تجاوزت التعاطف لتتجسد في سياسات ملموسة ، وفي عام 1980، كانت أيرلندا أول دولة أوروبية تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة ، كما دعمت الحكومات الأيرلندية المتعاقبة حق العودة الكامل للاجئين الفلسطينيين ، وفي العقود الأخيرة، برزت أيرلندا كصوت قوي داخل الاتحاد الأوروبي في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، حيث لم تتردد في انتقاد السياسات الإسرائيلية التي تنتهك القانون الدولي ، وأثناء الحرب في غزة عام 2023، كان للمواقف الأيرلندية تأثير كبير على الرأي العام الأوروبي ، حيث قاد المسؤولون الأيرلنديون حملة دبلوماسية واسعة لإدانة الهجمات الإسرائيلية، ووصفوها بأنها "جرائم إنسانية" ، وبلغت هذه المواقف ذروتها بإغلاق السفارة الإسرائيلية في دبلن في ديسمبر 2024، في خطوة رمزية عكست حجم التوتر بين الطرفين ، ولم تكتف أيرلندا بالمواقف الخطابية، بل اتخذت خطوات عملية لدعم القضية الفلسطينية ،وفي أغسطس 2024، أعلنت الحكومة الأيرلندية حظر مرور الطائرات المحملة بالأسلحة والمعدات العسكرية لإسرائيل عبر مجالها الجوي ، كما قادت دبلن جهوداً منسقة مع دول أوروبية أخرى لمطالبة الاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف صارم تجاه الانتهاكات الإسرائيلية ، وهذه السياسات جعلت أيرلندا هدفاً لانتقادات إسرائيلية حادة، لكنها أكسبتها احتراماً دولياً واسعاً ، بالإضافة إلى مواقفها الرسمية، برز التضامن الشعبي الأيرلندي مع فلسطين من خلال المظاهرات الحاشدة والأنشطة الحقوقية والإعلامية ،وقد قامت منظمات أيرلندية بتنظيم حملات لنشر الوعي حول معاناة الفلسطينيين، وسيرت سفناً لفك الحصار عن غزة ،وهذا الزخم الشعبي والسياسي جعل أيرلندا نموذجاً للتضامن العالمي مع قضايا التحرر والعدالة ، وإن العلاقة بين أيرلندا وفلسطين ليست مجرد قصة تضامن، بل هي شهادة على قوة التجارب المشتركة في صياغة تحالفات تتجاوز الحدود ، فمن نضال الشعب الأيرلندي ضد الاستعمار البريطاني إلى كفاح الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، تثبت هذه العلاقة أن العدالة والحرية قيم عالمية تجمع الشعوب، مهما اختلفت الثقافات والمسافات ، وتبقى أيرلندا مثالاً ملهماً لدولة لم تكتف بإدانة الظلم بل جعلت من تاريخها مرآة تعكس معاناة الآخرين، مؤكدة أن النضال من أجل الحرية والعدالة لا يتجزأ . ناشطة في حقوق الإنسان على المستوى العالمي .