تبدو أقلامنا محروقة، ومحابرنا جافّة، أتلفتها حقيقة ما نراه ونسمعه على مدار الثانية في قطاع غزة، فلو أحدهم روى لنا ما يحدث لظننا أنه يحكي قصة خيالية، أو مسلسلا مزعجا، لكن ما يتعرض له الأهل في غزة مجازر وخرق فاضح لكل القوانين الدولية والإنسانية، وجرائم متواصلة، فكل هذا حقيقة أحرق أقلامنا وجفت محابرنا، وتقزّمت كل لغات البشرية في التعبير عما نرى ونسمع.
حرق مستشفى، قتل الصحفيين، استشهاد زميلنا الإعلامي أيمن الجدي وبعد وفاته بدقائق يخرج طفله الأول على هذه الحياة، ليكون ابن شهيد، والطفلة التي توفيت من البرد، وإخراج مئات المرضى من المستشفى ورميهم على قارعة «الموت»، وإخراج الكوادر الطبية والتمريضية بطريقة مهينة وقد جرّدوهم من ملابسهم قسرا من المستشفى، وغيرها وغيرها من الجرائم التي أبكت قلوبنا وعقولنا أبكت لغتنا وحروفها، فلم نعد قادرين على الوصف، ولا التعبير، قولنا عاجز، وكلماتنا شاخت، ولغتنا تتكئ على صيغ بلاغية لم تعتد على مثل هذه الأحداث والجرائم.
ما يحدث في غزة من جرائم لا تتوقف حقائق أتعبتها التفاصيل، وأرهقتها الجرائم المتكررة والتي تزداد عنفا يوما بعد يوم، كل ما حولنا يحكي وجعا وألما، وما يزيد من آهات هذا الألم حالة الصمت التي يصرّ عليها العالم، ولو أن نصف بل جزء مما تعيشه غزة عاشته أي من شعوب الأرض، لتعالت الأصوات وتسارعت الخطى لوقفه، ومحاسبة مقترفيه، وكأن غزة وأهلها ليسوا كما البشرية، وهم في واقع الحال لا يشبهون سوى أنفسهم بالصمود والنضال والإصرار على التشبث بترابهم، فهم ماضون بالمواجهة، والعالم يغمض عينيه عن كل ما يحدث.
ليس جديدا أن يعتدي الاحتلال على أحد مستشفيات قطاع غزة، لكن في حرق مستشفى كمال عدوان، تجاوزت إسرائيل حدود العقل والمنطق، ولا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا إنها تجاوزت حتى تفكير كاتبي روايات العنف والإرهاب، فلم تشهد دراما التاريخ مثل هذه الجرائم، ومثل هذا الفِكر الإجرامي، رؤية مستشفى وهو يُحرق والمرضى وهم يخرجون منه وقد أنهكهم المرض، ليواجهوا بردا ووجعا ومهانة، وجوعا وعطشا، أقسم أنها لم تحدث في تاريخ حروب البشرية لمدنيين أبرياء بل لمرضى موجوعين.
قليلة هي الأصوات بل نادرة هي الأصوات التي دانت حرق المستشفى، وكأن الأمر طبيعيا، وأن يخوض أبرياء معركة هي الأقسى بتاريخ البشرية بضمائرهم، وأجسادهم الهزيلة، لا بسلاح ولا حتى بأدنى مقاييس القوة، يخوضون حربهم مدنيين أبرياء بآلام جسدية ونفسية، بقهر وظلم ومجازر وإبادة وجوع وعطش وإرهاب وأكثر، حقيقة لم نعد نملك مفردات تعبّر عن هول وبشاعة ما يشهده قطاع غزة.
الأردن دان بأشد العبارات حرق قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان في شمال قطاع غزة، وإجبار المرضى والكوادر الطبية على إخلائه، مؤكدا أن ذلك خرق فاضح للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وجريمة حرب نكراء تضاف لجرائم إسرائيل المتواصلة في القطاع، وحمّل إسرائيل مسؤولية سلامة المدنيين والطواقم الطبية العاملة في المستشفى، إضافة لإشارة الأردن الواضحة لاستهداف إسرائيل الممنهج للمرافق والكوادر الطبية، والذي يُعد خرقاً للقانون الدولي وخصوصاً اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب وإمعاناً خطيراً في تدمير المنشآت الحيوية اللازمة لبقاء السكان في شمال القطاع.
موقف أردني واضح، وعلني جاهر به أمام العالم، طلبا لنُصرة الأهل في غزة، كاشفا أن ما يحدث جرائم يجب الوقوف أمامها لمنعها، داعيا المجتمع الدولي وخصوصاً مجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، وفي هذه الرؤية الأردنية إمكانية للتطبيق، إمكانية كبيرة لجعلها ممكنة، ذلك أن بقاء الاحتلال الإسرائيلي على هذا النحو الإجرامي دون وقفه بقرار دولي واضح، جريمة أخرى بحق الأهل في غزة، فغزة وحدها وستبقى إن لم يوقف العالم جرائم إسرائيل.