عام صعب وثقيل، لا نعتقد أنه سوف يُمْحى من ذاكرتنا. لا ندري هل تقلب الأعوام بعده يمكن أن يخفف من وطأة ما حملناه وشاهدناه من صور بشعة، أنتجها الشر المطلق الذي لا يمكن أن يتواجد إلا في الأنفس البشرية المتخمة بالأمراض.
أطفال ينجون من القصف والجوع، فيصطادهم البرد القارس، ويسلمهم للموت بلا أي هدوء أو سكينة، وصحفيون مدربون على نقل الحقيقة بتقاريرهم التي تتوالى على مدار الساعة، يصبحون هم الخبر بأشلاء مبعثرة، ودماء تطفح بها الشاشات التي لطالما احتلوها وهم يخبروننا عن الجانب المظلم من الشر المطلق، وأحلام كانت تراودهم فتحطمت تحت نار الحقد والدموية.
"كنت أقوم بتدفئتها واحتضانها، لكن لم يكن لدينا ملابس إضافية لتدفئتها... ماتت طفلتي". أهي كلمات حيادية التي قالتها تلك الأم، أم أن ضخامة الفاجعة لم تترك مجالا لأي بلاغة لسانية، فأرادتها حقيقة بسيطة تضج بالألم! أيّ ألم يمكن أن تختزله هذه الجملة؟ سيلا، ليست وحدها؛ فهي واحدة من أربعة أطفال تجمّدوا حتى الموت في خان يونس، جنوب قطاع غزة. موت بارد، صامت، موحش وقاس، والأنكى أنه سيظل محفورا في قلوب من بقيت صورهم في ذاكرتهم!
في خيم مصنوعة من القماش والنايلون، تضطر مئات آلاف العائلات الفلسطينية لاختبار معاناة لم يختبرها أحد من قبل. البرد القارس يأكل الأجساد؛ صغارا وكبارا، والجوع لا يعرف الرحمة، وفتك الأسلحة المتوحشة يطارد الجميع، فيسلمهم إلى خوف يتربص بالجميع، ولا يرحم ضعفهم. هؤلاء فروا من الهجمات الصهيونية الدموية التي لا تعرف حدودا للقسوة، ليجدوا أنفسهم في معركة مع البرد الذي لا يرحم، كما هو الحال أيضا مع الطبيب أحمد الزهارنة، الذي قضى عمره ينقذ الأرواح، واستشهد وهو يحاول النجاة في خيمته المتجمّدة، لكنه استسلم أمام "اللاحياة".
اليوم، الفلسطيني محاصر بالموت من كل اتجاه؛ قصفا، بردا، وجوعا، وثمة حكايات لا يمكن لها أن تمر من دون أن نتوقف أمامها. ثمة حكايات تأخذ مساحة كبيرة من الألم: ماذا ستخبر الأمّ طفلها الذي ولد يوم استشهاد والده الصحفي أيمن الجدي، ما الذي يدور الآن في خلد الشهيد الذي لم يستطع معانقة طفله الأول، ولم يحتفظ برائحته ذكرى لموت طويل؟!
والجدي، الذي حمل الكاميرا ليضيء على معاناة شعبه وينقل الحقيقة للعالم، ليس وحيدا في "مسلسل" محاولات إسكات استهدفت مركبته الصحفية، ليرتقي مع خمسة صحفيين آخرين في فجر دموي جديد.
مسلسل الاحتلال في محاولات إسكات الحقيقة عن الظهور لا يتوقف عند الجدي، فهو انضم إلى زهاء 200 إعلامي آخر دفعوا حياتهم ثمنا لنقل أحداث "محرقة غزة"، بينما يقف العالم متفرجا، والأكثر خسارة أن يتحول هؤلاء إلى مجرد أرقام، وننسى أنهم كانوا حياة كاملة، وأصحاب أسر وأحلام ومشاريع مستقبلية رسموها مع أحبتهم، لكنها انتهت إلى مأساة كبيرة!
نتساءل: هل ما نزال نحن أنفسنا، أم أن ما شهدناه من فواجع حولتنا أشخاصا آخرين، قد يعتادون البشاعة؟ هل حقا اعتدنا هذه المشاهد التي "تقصفنا" بها نشرات الأخبار على مدار الساعة؟ هل تغيرت كيمياء أدمغتنا، فأصبحت المشاهد أقل تأثيرا بإنسانيتنا؟!
لا أظن أننا اعتدنا ذلك، ولكن في عالم تزداد فيه الفجوة الإنسانية، نواجه تحديات في الحفاظ على ما تبقى من إنسانيتنا. سنظل نحلم بعالم أكثر عدالة، فالأمل والحلم هما قوتنا الوحيدة بمواجهة قسوة الواقع وقبحه، وبمواجهة فساد العالم الذي يصف نفسه بـ"المتحضر"، بينما ينتمي هو في الحقيقة إلى ما قبل زمن الحضارة.
العام الجديد ليس مجرد رقم ينضاف إلى "رزنامة" الوقت، بل هو فرصة لنستعيد إنسانيتنا، ونواجه الصمت الذي يغلف أرواحنا. هو فرصة أن نحافظ على قلوب حيّة، وعلى ضمير ينتمي إلى البشر، ونفس تتوق إلى الخير والجمال والسلام.
قد لا نستطيع إعادة التوازن إلى أرواحنا خلال وقت قصير، لكننا سنعمل على ذلك بالتأكيد، فنحن متشبثون بخيط الأمل الذي يميز إنسانيتنا. وستبقى بوصلتنا الإنسانية غزة، وما فيها من أنفس محاصرة بظلم الإنسان وطغيانه.