في ظل ما تشهده المنطقة من تحولات سياسية واجتماعية متسارعة، باتت مسألة الهوية من أكثر القضايا تعقيدًا وحساسية، خصوصًا في الدول التي تواجه تحديات مرتبطة باللجوء والتوطين. في هذا السياق، يظهر مصطلح "الهوية الجامعة" كأداة خطابية تحمل في طياتها الكثير من الإشكاليات والتساؤلات حول ماهية هذه الهوية، ومن المستفيد من إعادة تشكيلها أو تمييعها.
ويدفعنا للتساؤل عن الهوية الجامعة مصطلح فضفاض أم بوابة للتوطين؟
لطالما كانت الهوية الوطنية الأردنية مرتبطة بتاريخ البلاد وثقافتها وخصوصية شعبها. ومع ذلك، فإن طرح مصطلح "الهوية الجامعة" لا يبدو بريئًا تمامًا؛ فهو يفتح الباب أمام توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن بطريقة غير مباشرة، مما قد يؤدي إلى تذويب الهوية الفلسطينية وإضعاف المطالبة بحق العودة، وفي الوقت نفسه إخفاء ملامح الهوية الأردنية المميزة.
إن الهوية الجامعة تُستخدم كذريعة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، حيث يتم تصويرها كضرورة لتحقيق السلم الاجتماعي والاندماج، لكنها قد تكون في جوهرها محاولة لطمس الفروقات الجوهرية بين الهويات المختلفة، ما يُفضي في النهاية إلى هوية هشة، بلا جذور تاريخية أو ثقافية واضحة.
التوجيه الإعلامي واللعب بالمفردات
يلعب الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل الوعي العام، ومن خلال التحكم بالمفردات والمصطلحات المستخدمة، يمكن توجيه الرأي العام نحو قبول مفاهيم معينة دون وعي كامل بتبعاتها. عندما يُستخدم مصطلح "الهوية الجامعة" بشكل مكثف في وسائل الإعلام، ويتم تسويقه كحل مثالي للمشكلات الاجتماعية والسياسية، فإن ذلك يؤدي تدريجيًا إلى تغيير نظرة المجتمع للهوية التقليدية.
الإعلام لا يكتفي فقط بالترويج للمصطلحات الجديدة، بل يتعمد في كثير من الأحيان تهميش أو تشويه المصطلحات المرتبطة بالهوية الوطنية الحقيقية، مثل "الهوية الأردنية" أو "الهوية الفلسطينية"، مما يُضعف التمسك بالثوابت الوطنية ويجعل من السهل التلاعب بالانتماءات.
وإن تأثير تمييع الهوية على القضية الفلسطينية
فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإن تمييع الهوية يُعدّ تهديدًا مباشرًا لها، حيث يؤدي إلى تقويض حق العودة وتثبيت فكرة التوطين كحل نهائي. عندما تُذوّب الهوية الفلسطينية في إطار هوية جامعة، يصبح من الصعب على الأجيال القادمة الحفاظ على ارتباطها بأرضها وحقها في العودة، وبالتالي يتحقق الهدف الصهيوني في التخلص من القضية الفلسطينية كأحد أبرز أوجه الصراع العربي الإسرائيلي.
وتواجه الهوية الأردنية تحديات بين الإقصاء والتذويب
أما على الجانب الأردني، فإن محاولات تمييع الهوية تؤدي إلى تقليل أهمية المكون الوطني الأردني، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي للبلاد. فالهوية الأردنية، التي بُنيت عبر عقود طويلة من التضحيات والإنجازات، قد تتعرض للإقصاء تحت ذريعة "الاندماج" و"الوحدة الوطنية"، مما يخلق حالة من الانفصام في المجتمع، حيث يشعر المواطنون بأنهم فقدوا جزءًا أساسيًا من كيانهم.
الحفاظ على الهوية ضرورة وليست ترفًا
إن أي محاولة لإعادة تعريف الهوية الوطنية تحت مسميات فضفاضة، مثل "الهوية الجامعة"، ينبغي أن تُقابل بوعي مجتمعي وإعلامي يعيد التأكيد على أهمية الخصوصيات الوطنية. فالهوية ليست مجرد شعار يُرفع لتحقيق أهداف سياسية مؤقتة، بل هي روح الأمة وعمقها الحضاري الذي يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.
من الضروري أن تكون هناك سياسات وطنية واضحة تحمي الهوية الوطنية الأردنية والفلسطينية من محاولات التمييع والتذويب، وأن يلعب الإعلام دوره الحقيقي في التوعية بمخاطر هذه الظاهرة بدلًا من الترويج لها. فالحفاظ على الهوية لا يعني الانغلاق، بل يعني التمسك بالثوابت في وجه العواصف العابرة.