يَركبُ الأطفالُ أحصِنةَ خيالِهمُ المُجنَّحةَ، تَعْدُو بهم فوقَ هضابِ الغيمِ الأبيضِ، وفوقَ سهولِ القمرِ، يَقفِزونَ بها مِنْ نجمةٍ لنجمةٍ، ويَعودونَ لنا بأحلى الحكاياتِ وأطرفِها، نُحِبُّهم لأجلِها ونُصَدِّقُهم. وفي عالَمِ الواقعِ الذي لم يكنْ أقلَّ دَهشةً من حكاياتِهم، كانتْ تفاصيلُ الحياةِ اليوميةِ تحمِلُ طابعًا خاصًا يُعَبِّرُ عن بساطةِ الزمنِ وأصالَتِه، ومنها طقوسُ الغَسيلِ التي كانتْ آنذاك مشهدًا مألوفًا في كل بيت.
مِنْ تلكَ الحكاياتِ الطريفةِ ما رَوَتْه فتاةٌ لصديقتِها، في فسحةِ أحدِ الأيامِ الدراسيةِ، مِنْ أيامِ ذلكَ الزمنِ الذي كانَ فيه الناسُ ينشرونَ الغَسيلَ على الحبالِ في ساحاتِ منازلِهم وعلى الشُّرَفاتِ وفوقَ الأسطُحِ، يَعرضونَ غَسيلَهم كما لو كانتْ لوحاتٍ فنيةٍ، تَرى فيها الملايس المُلوَّنةَ، والناصعةَ البياضِ تراقص الريح، وينتشر عطرها في الأجواء.
وكأنَّ سيداتِ ذلكَ الزمنِ يَعرضنَ مَهاراتِهنَّ ويُكاثِرنَ غيرَهنَّ بما لديهنَّ مِنْ مسؤوليةٍ وجهدٍ ومشقةٍ.
كانتِ الأحاديثُ تدورُ حولَ مَهارةِ إحداهنَّ ونظافةِ غَسيلِها ورائحتِه العَطِرةِ، وطُرُقِها الفنيةِ في معالجةِ قِطعِ الملابسِ المختلفةِ وما عَلِقَ بها مِنْ أوساخٍ، وكيفَ ينتهي النهارُ بينَ أكوامِ الملابسِ وما تحتاجُه مِنْ نقعٍ وغَليٍ وشَطْفٍ، تلكَ الأعمالُ التي تقومُ بها اليومَ الغَسالةُ والنشافةُ الأوتوماتيكيةُ بما لديها مِنْ برامجَ وخياراتٍ.
في محاكاةٍ لسيداتِ ذلكَ العصرِ، بدأتِ الفتاةُ تتحدثُ عن مَهارةِ أُمِّها في الغَسيلِ، وأنَّها متى ما غَسَلَتْ "شِروالَ" جَدِّها الذي يَحتاجُ إلى حفلةٍ تمتدُّ ليلةً ونهارًا، ثمَّ إذا نَشَرَتْهُ، أَخَذَ حبلَ الغَسيلِ بأكملِه ولم يُبقِ فُسحةً لغيرِه، ويصنعُ بظلِّه عريشًا يَجتمعُ تحتَه أفرادُ العائلةِ ذلكَ اليومَ ويُقيمونَ وليمةً سعيدةً.
ضحكت الصديقة وعلامات الدهشة على وجهها.
تَعلَمونَ أنَّ الشِّروالَ لِباسٌ تراثيٌّ فضفاضٌ، يَلبسُه الرجلُ في نصفِه الأسفلِ، يَضيقُ عندَ القدمينِ، ويتسعُ عندَ الفخذينِ، وتكثرُ كسراتُه وطياتُه حولَ الخصرِ، ويَتدلى جزءٌ منه في الخلفِ يُسمَّى "لِيّةَ الشِّروال"، يَحتاجُ الشخصُ العاديُّ منْ ثلاثٍ إلى خمسةِ أمتارٍ من القماشِ، حسبَ عرضِ الكَمَرِ، والكسراتِ، والجزءِ المُتدليِّ بينَ الساقينِ. يُمكنُ أنْ يكونَ واسعًا أو واسعًا جدًا، حسبَ ثراءِ الرجلِ وخطورةِ مركزِه الاجتماعيِّ، يُؤمِّنُ الراحةَ والتهويةَ التي يَحتاجُها الشخصُ أثناءَ ساعاتِ العملِ الطويلةِ في الزراعةِ والفلاحةِ.
كنتَ تَراهُ في ساحاتِ المدنِ في بلادِ الشامِ وقُراها حتى سبعينياتِ القرنِ الماضي، وربما ما زالتْ تَزدانُ به بعضُ القُرى النائيةِ عن طريقِ البنطلون العصريِّ المصنوعِ من قماشِ "الدينم" أو "الجينز"، كنتَ تَرى الرجالَ يَسيرونَ تَتهدلُ خلفَهم "لِيّاتُ شراويلِهم" بفخرِ هؤلاءِ الذينَ يَلبسونَ آخرَ صرعاتِ الموضةِ العالميةِ.
يعتبر لباسا شرقيا بجدارة، تراه من الصين شرقا إلى بلاد المغرب العربي، انتشر في بلدان الشرق الأوسط منذ قرون، هل وصَلَنا من بلاد فارس، وقد عاد به الفاتحون الأوائل؟ هل هو من بقايا العثمانيين الأتراك؟ أم تطور مع ما تطور من ملابس منذ عهد الكنعانيين؟ مهما كانت الإجابة، من الواضح أنه تطور تصميمه ليأخذ أشكاله المعاصرة التي نستخدمها اليوم في مدننا و باديتنا و أريافنا.
ولو أنَّ أحدَهم كَتَبَ شعرًا في شِروالِ جَدِّه، كما كَتَبَ مسكينُ الدارميُّ في الخِمارِ الأسودِ عندما قال:
قل للمليحةِ في الخِمارِ الأسودِ ** ماذا فَعَلْتِ بناسِكٍ مُتَعَبِّدِ
لو فعل، لَذاعَ صيتُ شِروالِ جَدِّه وجاوزَ الآفاقَ، ولذَكَرْناهُ اليومَ كما نَذْكُرُ ونَحِنّ إلى قهوةِ أُمَّهاتِنا.
وإنْ كانَ حاولَ ذلكَ طوني حنّا في أُغنيةٍ تراثية سنة 1982، يقولُ مَطلعُها:
شِروالُ جَدَّك يا جَدِّي ... مُرقَّعٌ لكنَّ بيهَدِّي
وبعدُه مُعلَّقٌ منْ أيّامِ ... جَدُّهُ لِجَدِّكَ يا جَدِّي
يَتذكَّرُ بعدَ ذلكَ: القمحَ والجِفتَ والخُرجَ وأسماء تراثية أصبحت غريبة على مسمعنا.
ثمَّ يتمنّى على جَدِّه قائلًا:
ياريتَكْ ما شَلَحتِ النِّير ... ولا تَرَكتِ السِّكَّةَ تَصدِّي
في حنين لا يخفى لتلك الأيام. تُرى، هل فقدنا شيئًا حين اختفت تلك الطقوس؟ أم أن ذكرياتنا وحدها التي تُبالغ في جمال ما مضى؟
لما لا نعود بأدراجنا للفتاتين اللتين بدأت بهما رحلتنا، ولتسمع ماردت به الصديقة على قصة الشروال :
أما جدي، فقد كان طويلًا جدًا، إذا صعد على سطح البيت كان يسير ورأسه مخفضا كي لا يضرب القمر! وكان الناس يقولون إنه يستطيع أن يقطف النجوم بيديه.
هل تصدقون ذلك؟
سعيد ذياب سليم