اختصر وزير الخارجية الأمريكي الجديد ماركو روبيو التوجيه الذي تلقاه من الرئيس دونالد ترامب فيما يخص أي قرار أو إجراء تتخذه الوزارة ومنها المنح والقروض والمساعدات الأمريكية بالإجابة عن ثلاثة أسئلة: كيف يصب ذلك في أمن، قوة وازدهار أمريكا. لن تقدم واشنطن على خطوة ولا تصرف سنتا واحدا ما لم تكن الإجابة نعم على ما تَقدّم.
حظي روبيو، السيناتور المخضرم عن ولاية فلوريدا بثقة مطلقة -تسعة وتسعين صوتا مؤيدا مقابل صفر معارضة- في دعم تشريعي قوي لأجندة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الأقل في سياسته الخارجية، ومن الحزبين الجمهوري والديموقراطي. من أكثر ما يميز روبيو وهو ابن والدين مهاجرين من كوبا وعقيلته ابنة والدين مهاجرين من كولومبيا، أنه رغم كونه من المحافظين الجمهوريين إلا أنه من الأصوات الموحّدة العابرة للخلافات الداخلية في صفوف الحزب الجمهوري، وكذلك ذات الرصيد المرموق والموثوق في التعاون مع زملائهم الديموقراطيين في تمرير تعيينات ومشاريع قرارات في مجلس الشيوخ الأمريكي.
ثمة تطابق في هذه الثلاثية مع مفهوم الرئيس القديم الجديد عن السلام، في أي ساحة كانت، وعن الإعمار والاستثمار في معانيه الشاملة، الأبعد أثرا من الأبعاد التجارية أو الاقتصادية الضيقة أو العابرة.
بصرف النظر عن أي حرب أراد إنهائها أو سلام أراد تحقيقه، عبّر ترامب في مناسبات كثيرة قبل حرب السابع من اكتوبر، بأن السلام يتحقق بفضل القوة الكامنة خلفه وبه، وذلك شعار رفعه الرئيس الجمهوري الأيقوني رونالد ريغان قبل أربعة عقود. لكن البعدين الإضافيين أو الضلعين الأهم لاكتمال هذا المثلث، كان دائما الأمن والازدهار.
حتى تحقق السلام المنشود لا بد أولا من توفير الإحساس بالأمن، حتى تستطيع الأطراف المعنية المجازفة والتقدم نحو تقديم تنازلات متبادلة تفضي إلى زوال الخوف، ومن ثم توفير الأرضية اللازمة لإقامة تعاون اقتصادي يتصدى أولا للمشكلات والتحديات المعيشية سيما في الحياة اليومية لغالبية الناس، ومن ثم البناء عليها من أجل غد أفضل عبر مشاريع تشاركية تعود بالنفع على أولئك الذين منحوا السلام فرصة للثقة بالحاضر القادر على التأسيس للمستقبل الواعد.
ليس سرا أن هذا الطرح لطالما اصطدم بمعسكر رافض أو مشكك أو متشدد لأسباب شتى، بعضها مُبَرّر وبعضها قابل للفهم وربما التفهّم والتعاطف أيضا. لكن استمرار تمترس البعض داخل أسوار عقلية الحصن لن يؤدي إلا إلى إقامة مزيد من الجدران، جدران الفصل والعزل والانعزال، عوضا عن إقامة الجسور، بما فيها المعلّقة والطابقية، والأنفاق العمرانية الخدماتية لا العُنفية التدميرية.
التغيير المنشود، محاكاة لسويسرا أو سينغافورة شرق أوسطية، قد يكون آنيا بقرار تنفيذي مثلا أو معاهدة بين دول أو أحلاف، وقد يكون مرحليا أو متطورا على نحو طبيعي، أو عبر إحداث وتوظيف قوى الدفع الناعمة والخشنة، لحين تحقيق الزخم المطلوب لسير العربة واكتسابها الزخم المطلوب للحركة والعبور. نعم تلك العربة التي حصر البعض تفكيرهم بجدلية «العربة والحصان» أيهما يتقدم الآخر؟! وكأن وسائل النقل لم تدرك عصر القاطر والمقطور والدرون والصاروخ الفارط صوتي؟! بعض العنتريات تجاوزت الظواهر الصوتية إلى ما هو أكثر تشويشا وتشتيتا. وقد كفى ما أزهق من أرواح وضاع من حقوق ومكتسبات.
ليس سرا من تجارب سابقة في الشرق الأوسط وساحات أخرى أنه وكما يحقق النجاح زخما، كذلك الإخفاق والفشل يفعل ما هو أكثر تعطيلا وتخريبا لفرص الأمن والسلام، النماء والرخاء.
لعل معايير روبيو تحل أحجية «روبكس كيوب» الشرق أوسطية. مع بدايات حرب السابع من اكتوبر 2023 بدأ الحديث عن «اليوم التالي» في قطاع غزة (ما بعد حماس) فصار في جنوب لبنان (ما بعد حزب الله) ويخشى أن يصير كذلك في الضفة الفلسطينية بعد تدهور الوضع الأمني في مخيم جنين (اليوم التالي أو ما قبل ضم المستوطنات والغور من الجانب الغربي لنهر الأردن).
ماذا لو تم تفعيل تلك الثلاثية لدى الأطراف كافة؟ تلك مسؤولية قادة المجتمع وصنّاع الرأي لدى الفلسطينيين -القطاع والضفة- ولدى الإسرائيليين، ومن ثم ما كان يعرف بدول الطوق وسائر الدول التي تعنى بأبعاد «القضية» وطنيا وقوميا ودينيا. لم تعد القضية، قضية فلسطينية فقط، صارت عبر قرن من الأحداث الجسام قضية قوة وأمن وازدهار للإقليم والجوار والعالم. قضية تم باسمها تعطيل الديمقراطية وهدر التنمية وضياع الاستثمار فلسطينيا وإقليميا ودوليا.
وما دام أكثر المعارضين لصنع السلام هم الأكثر تشددا في طروحاتهم الرافضة من الناحية العملية لوجود الآخر للأسف، فيحق لمعارضيهم العمل معا من أجل تخفيف مخاوف الأمن المشتركة، ومن ثم حماية القوة الدافعة للحركة للأمام نحو المستقبل، بحيث تتكامل أدوار الأمن والاقتصاد في تحقيق الحكمة الربانية في الإطعام والأمن فالأمان، «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» كما جاء في القرآن الكريم.
وكما في كثير من المناسبات الوطنية الأمريكية، كان حفل التنصيب الرئاسي الذي وصفه ترامب بيوم التحرير، كان زاخرا بالصلوات والأدعية، ومن ضمنها ما ورد في صلوات رجال الدين المسيحي واليهودي، حول دور رب العالمين سبحانه، رب السلام في صنع السلام من خلال ثلاثية من نوع آخر: محبة، حكمة، خدمة... قد تكون هذه الثلاثية أفضل المنح على الإطلاق وأصلح السياسات داخليا وخارجيا في «عصر أمريكا الذهبي» كما يأمل ترامب كصانع سلام قد يحوز جائزة نوبل إن أوقف حرب غزة أو أوكرانيا، فكيف إن زاد عليها صفقة كبرى مع إيران تغني عن تدمير برنامجها النووي أو إطاحة نظام ملالي طهران؟!