كَبِرْنا ونحن نُلَقَّن أن للكذب ألوانًا، منه الأبيض البريء، والأسود المدان، وبينهما طيف واسع من التبريرات. قيل لنا إن هناك أكاذيب مبررة وأخرى مستهجنة، حتى خُيّل إلينا أن الكذب قد يكون لوحة زاهية، لكنه في جوهره لا يكون إلا ظلالًا من السواد. كَبِرْنا على هذا الوهم، حتى اكتشفْنا أن الكذب ليس مجرد كلمات زائفة، بل شبكة معقدة من الخداع، يُنسَج بعضها لتبرير الألم، ويُستَخدم بعضها الآخر لإخفاء الحقيقة، خداع شبيه بالسرقة، لا شك أنه سيترك أثره القاتل في المدى البعيد.
هناك من يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الآخرين، وهناك من يصدق الأكاذيب بدافع الحب، حتى قيل من أجلهن إن الحب أعمى. هكذا يولَد الخداع، وهكذا تتشكل شخصيات معقدة، تعيش تناقضاتها بصمت، حتى تجد نفسها في مصحات العلاج النفسي أو دوائر الإدمان، ضحايا أكاذيب مؤسساتية أو عاطفية، تمامًا كما حدث مع فرانكي مكجرايث، بطلة رواية النساء لكريستين هانا.
فرانكي بين الحرب والتحدي
نشأت فرانكي (فرانسيس مكجرايث) في عائلة محافظة في كاليفورنيا تُقدّس الذكور، حيث خلى حائط الأبطال في منزلها من صور النساء، وكأن البطولة حكر على الرجال. هذا التجاهل دفعها للبحث عن إثبات ذاتها في أماكن لم تكن النساء تُرحَّب فيها، فاختارت أن تكون بطلة بطريقتها، عبر الانضمام إلى فيلق التمريض الحربي عام 1966، بعد مقتل أخيها في فيتنام. استلهمت قرارها من صديق أخيها ري والش، الذي أقنعها بأن "النساء يمكن أن يكنّ بطلات أيضًا". لكنها لم تكن تعلم حينها أن الحرب ستكشف لها أبشع صور الكذب، سواء في ميادين القتال أو في ميادين الحب.
وهم البطولة والخذلان المزدوج
في فيتنام، واجهت فرانكي واقعًا مغايرًا للصورة المثالية التي رسمتها في مخيلتها. لم تكن هناك أمجاد، بل كانت هناك جثث متفحمة، جرحى يصرخون تحت القصف، وجنود يعودون إلى بلادهم بأرواح مشوهة. شهدت تفجيرات النابالم التي التهمت المدنيين قبل العسكريين، ورأت كيف تُرتكب جرائم الحرب تحت غطاء "الواجب الوطني". وسط هذا الجحيم، أصبحت ممرضة جراحية ماهرة، تنقذ الأرواح في ظروف غير إنسانية. لكنها رأت أيضًا كيف أن الحرب لا تَقتل فقط بالألغام والرصاص، بل بالكذب والتزييف، سواء على مستوى الدول أو الأفراد.
شكلت فرانكي روابط قوية مع زميلتيها بارب وإيثيل، اللواتي أصبحن عائلتها البديلة. كنَّ يواجهن الموت معًا، ويجدن في صداقتهن عزاءً من الرعب اليومي. وفي ظل هذا الضغط النفسي، بدا الحب كمَهْرَب ضروري، لكن حتى الحب لم يكن صادقًا.
اقترب منها الطبيب الجراح جيمي رغم كونه متزوجًا، لكنها رفضته رغم إعجابها به. وحين أصيب إصابة قاتلة، شاهدته يُنقل على متن طائرة هليكوبتر، يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم يكن الحب ممكنًا حتى قبل أن يبدأ. وبعدها، تعلقت بـري والش، الذي تجنبته عندما علمت بعلاقته بفتاة ينوي الزواج بها، حتى عاد و أقسم لها بإنهاء خطوبته ليكون معها، لكنها اكتشفت لاحقًا أنه كان متزوجًا وأبًا لطفل، ليتركها في دوامة من الانهيار النفسي، لكن جوارحها كانت تعشقه، وهذا ما جعلها عرضة لخداعه مرة ثانية في الوطن.
العودة إلى وطن يرفض الاعتراف بها
حين عادت إلى أمريكا، وجدت نفسها غريبة وسط مجتمع يرى في الجنود العائدين مجرمين لا أبطالًا. استُقبِلت بالإهانات بدلًا من التكريم، ورأت كيف يُنكر المجتمع مساهمة النساء في الحرب، حتى أن المؤسسات الرسمية رفضت علاجها من اضطراب ما بعد الصدمة بحجة أنها "لم تشهد القتال"، رغم أنها عاشت أهواله. أما والدها، فلم يعترف بتضحياتها ورفض تعليق صورتها على "جدار الأبطال"، لأن البطولة في نظره لا تناسب النساء.
لم يكن الوطن أكثر صدقًا من الرجال الذين خذلوها. ففي لحظة قاسية، عادت فرانكي لتواجه خديعة أخرى: ري والش، الذي انتشرت أخبار عن مقتله، ظهر من جديد ليعترف بأنه حي، لكنه ما زال متزوجًا. خدعها مجددًا، مستغلًّا مشاعرها، وكأن الكذب كان قَدَرَها في الحرب والحب معًا. ذات يوم، وهي تغادر المستشفى، اكتشفت أن زوجته رُزِقت بطفل ذكر، هالها أن ري كان يمارس حياته الزوجية، في الوقت الذي يخدعها في علاقته معها، خرجت من المستشفى، تقود سيارتها بلا وجهة. كل شيء حولها بدا ضبابيا، كأن الخذلان غشى عينيها. ضغَطَت على دواسة السرعة... كأنها تحاول الهرب من إحساسها، لكنها فجأة اصطدمت براكب دراجة. لم تمت، لكنه كاد أن يلقى حتفه. وعندما أفاقت في المستشفى، راودها السؤال: هل كنت أحاول الانتحار؟
حين تصبح الكذبة مصيدة للروح
لماذا صدَّقَته؟ لماذا كَذَبَتْ على نفسها رغم كل الدلائل؟ ربما لأن الأكاذيب حين تُكرَّرْ، تصبح حقيقة في أذهاننا. وربما لأن الحب، حين يُخلط بالخوف والوحدة، يجعلنا أكثر استعدادًا لتصديق الخداع. لكن المجتمع لم يغفر لها ضعفها، رغم أنه يغفر للرجال سلوكيات مشابهة. أدانها الناس لعلاقتها بري، لكنهم صمتوا عن أكاذيبه وخياناته. في النهاية، استسلمت فرانكي للإدمان، وانزلقت في دوامة الكحول والمهدئات، محاولة الهروب من عالم لم يمنحها سوى الخذلان. وفي لحظة يأس، ألقت بنفسها في البحر، بحثًا عن نهاية لكل شيء.
الخلاص: البحث عن الحقيقة وسط الخراب
لكنها لم تمت. أنقذها والدها من الغرق، وُضِعت في مصحة لعلاجها من الإدمان ومساعدتها في مواجهة الذكريات، وعلاجها من اضطراب ما بعد الصدمة، بعد تماثلها للشفاء، قررت الرحيل بعيدا، ساعدها في ذلك صديقاتها من فيتنام، اللواتي أصبحن عائلتها الحقيقية، وعاشت معهن في مزرعة نائية، حيث بدأت تستعيد ذاتها عبر العمل كممرضة لمساعدة نساء أخريات عانين من صدمات الحرب. هناك، بعيدًا عن الأكاذيب والمؤسسات الزائفة، وجدت شيئًا يشبه الحقيقة.
في النهاية، حظيت بلحظة اعتراف متأخرة حين واجهت المجتمع خلال إزاحة الستار عن النصب التذكاري لحرب فيتنام بعد عقدين من عودتها. التقت بزملائها القدامى، بمن فيهم الطبيب جيمي، عندما وقعت عيناها عليه، تداخلت اللحظات في رأسها: فيتنام، المستشفى، الهليكوبتر التي حملته بعيدًا. هل يعقل أنه حي؟ شعرت بدوار خفيف، كما لو أن عقلها يرفض استيعاب الحقيقة. بعض الحقائق تحتاج إلى وقت طويل لتُرى، لكنها في النهاية، تفرض نفسها.
رواية عن الحرب، أم عن الخديعة؟
رواية النساء ليست مجرد سرد لحرب فيتنام، بل هي شهادة على أن الأكاذيب قد تكون أكثر فتكًا من القنابل. إنها نقد للكذب المؤسساتي الذي ينكر تضحيات النساء، والتمييز الجندري الذي يغفر للرجال ما يدين النساء بسببه. فرانكي، بانهيارها وصمودها، تجسد معاناة جيل كامل من النساء اللواتي خضن حربًا مزدوجة: واحدة في ساحات القتال، وأخرى ضد مجتمع لم يعترف بهن.
ربما كانت الحرب في فيتنام مجرد خلفية، أما المعركة الحقيقية، فقد كانت تلك التي خاضتها فرانكي ضد الخداع... ضد الأكاذيب التي قيلت لها، والتي قالتها لنفسها. وكما خُدِعَت فرانكي بأوهام البطولة، لا يزال العالم اليوم يُخدع بذرائع الحروب، التي تتكرر بأشكال مختلفة، لكنها تحمل الجوهر نفسه: الكذب الممنهج.
لم تكن فيتنام الحرب الأخيرة، ولم تكن فرانكي الضحية الوحيدة للخداع. بعد أن تجاوز العالم ستينات القرن العشرين، وانتهت الحرب الباردة، هل تغيّرت السياسة الأمريكية؟ هل انتهت استراتيجيات التضليل التي صاغت مصير فرانكي وآلاف غيرها؟ الناظر إلى العالم اليوم يدرك أن التاريخ يعيد نفسه، وأن الأكاذيب ما زلت تحكم مصائر الشعوب. وما زالت معايير القوة تُفرض وفق مصالح ضيقة، وكما برّرَت أمريكا حرب فيتنام بالأكاذيب، نجد اليوم الآلية ذاتها تُستخدم في حرب غزة، حيث تُختلق الذرائع ويُشوَّه الواقع لتبرير العنف الذي يمارسه الجانب الإسرائيلي ضد المدنيين.
الكذب ليس مجرد أداة في الحروب، بل أصبح أسلوب حياة، يُشرّع للسياسة ويُبرَّر في العلاقات الشخصية.
هل يمكن لأي مجتمع أن يزدهر دون كذب؟ وهل الحقيقة المطلقة قادرة على خلق عالم أكثر إنسانية؟
هل يمكن للحقيقة أن تفرض نفسها يومًا، أم أن التاريخ سيبقى أسيرًا لتأويلات الأقوياء، يُعاد تشكيله وفق أهوائهم، بينما تبقى الضحية دائمًا بلا صوت؟
سعيد ذياب سليم