في زمنٍ تحولت فيه الكلمة إلى سلاح، والصورة إلى أداة تأثيرٍ تفوق في قوتها المدافع والصواريخ، يصبح الإعلام خط الدفاع الأول عن الأوطان. فهو ليس مجرد ناقلٍ للأخبار، بل سلاح ذو حدين؛ إما أن يكون في صف الوطن، حاملًا قضاياه ومدافعًا عن هويته، أو أن يتحول إلى أداة للتلميع والتربح، حيث يُباع الخطاب الوطني على أعتاب المصالح الضيقة. وحينما يغيب الإعلام عن دوره الحقيقي، يصبح الوطن مكشوفًا أمام الهجمات الموجهة، وتضيع الحقيقة وسط ضجيج الدعاية المضادة.
لقد شهدنا في الآونة الأخيرة هجمات إعلامية استهدفت الأردن، حيث تعرضت صورته لمحاولات التشويه والضغط، ومع ذلك، بدا الإعلام الأردني وكأنه في غفوة، غير قادر على صياغة ردٍ استراتيجي متماسك، بينما كانت بعض منصاته منشغلة بتكرار التصريحات الرسمية دون تحليلها أو تفكيك الروايات المضادة. في الوقت الذي كان المنتظر فيه خطاب إعلامي وطني واحترافي قادر على مواجهة التحديات، لا مجرد بيانات باهتة تفتقر إلى العمق والتأثير.
المؤلم في المشهد أن بعض الإعلاميين، بدلًا من أن يكونوا في طليعة المواجهة، اختاروا لعب أدوار أخرى، حيث انشغلوا بتلميع الشخصيات والنخب، وكأن المهمة الأولى للإعلام لم تعد الدفاع عن الوطن، بل بناء هالات زائفة حول بعض المسؤولين. وبينما كانت بعض الجهات الإعلامية الخارجية تمارس حربًا إعلامية منظمة، جاء الرد المحلي، رغم تأخره، خجولًا، يفتقر إلى الأدوات المناسبة والأسلوب القادر على إقناع الرأي العام.
لكن هذه المرة، كان الرأي العام الأردني هو من تصدّى لتلك الهجمات بعفوية مطلقة، مؤكدًا ثقته بحكمة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين وعدالة قضيته، لا سيما فيما يتعلق بمواقفه الثابتة تجاه الأشقاء في فلسطين. لقد أثبت الأردنيون أن الإعلام الوطني ليس مجرد منصات رسمية، بل منظومة متكاملة تعتمد على وعي الشعب، وتتطلب رؤية واضحة وخططًا استباقية لمواجهة التحديات، وأشخاصًا يدركون أن دورهم يتجاوز حدود الوظيفة ليصل إلى جوهر المسؤولية الوطنية.
ولا يكفي أن يكون لدينا قنوات وصحف ومنصات رقمية إن لم نمتلك عقلية إعلامية تدرك طبيعة المعركة وتعرف كيف تديرها بذكاء ومهنية. فالمسألة ليست في كمية المحتوى، بل في نوعيته، وليست في عدد المنابر، بل في مدى تأثيرها وصدق خطابها.
اليوم، التحدي الحقيقي للإعلام الأردني ليس في مواجهة الحملات الإعلامية المضادة فحسب، بل في استعادة ثقة الشارع به. فالجمهور الأردني لم يعد يكتفي بسماع الخطاب الرسمي، بل يبحث عن تحليل عميق، ونقاش موضوعي، وإعلاميين يمتلكون الجرأة والمصداقية. وإن لم يجد ذلك في إعلام بلاده، فسيتجه إلى مصادر أخرى، بعضها قد لا يكون نزيهًا أو محايدًا، وقد خضنا تجربة عملية في ذلك من خلال وكالات أجنبية وعربية.
أما التراخي الإعلامي في مواجهة الهجمات الأخيرة، فليس مجرد هفوة، بل مؤشر على حاجة ملحّة لإعادة النظر في دور الإعلام والإعلاميين. فالإعلام الذي لا ينتصر لوطنه، ولا يحمي سمعته، ولا يواجه الحملات الممنهجة بحرفية، يفقد مبرر وجوده، ويتحول إلى عبء بدلًا من أن يكون رصيدًا للدولة. وبينما تتغير أدوات الصراع في العصر الحديث، يبقى الإعلام أحد أهم جبهات المواجهة، فإما أن يكون مستعدًا ومدركًا لحجم المسؤولية، أو أن يظل متأخرًا، يلهث خلف الأحداث بدلًا من صناعتها.
أما الإعلاميون الذين ينظرون إلى منابرهم كوسيلة لتحقيق المكاسب الشخصية، فلا يدركون أنهم، بقصد أو بغير قصد، يفرّغون الإعلام من جوهره، ويتركون الوطن بلا دفاع حقيقي. فالإعلام ليس مهنة للارتزاق، بل رسالة ومسؤولية، ومن لا يفهم ذلك، فمكانه ليس في الصفوف الأمامية لمواجهة التحديات.
وعلى الدولة أن تدرك أن الإعلام القوي ليس ترفًا، بل ضرورة، وأن دعم الإعلاميين الحقيقيين هو استثمار في الأمن الوطني، وليس مجرد قرار إداري. فالمعركة اليوم لم تعد تُحسم بالسلاح وحده، بل بالكلمة والصورة والرواية القوية، ومن لا يمتلك أدوات التأثير في هذا الميدان، لن يكون قادرًا على حماية وطنه في زمن الحروب الإعلامية.