أعترف – بدايةً- للصديق الطبيب والأديب والمثقف، عاصم منصور، أنّني عشت ساعات طويلة من المتعة الذهنية والر عب النفسي، بين فصول وصفحات كتابه الجديد «السرطان من المسافة صفر: عندما تخون الخلايا»، وهو فعلاً عنوان دقيق وعميق، لأنّ مؤلفه يضعنا وجهاً لوجه مع السرطان، الذي يمثّل اسماً مرعباً لنا جميعاً، ويأخذنا في جولة تعريفية مدهشة لنتعرّف على كل ما نحتاج لنعرفه عن «الخلايا المنحرفة» المسؤولة عن هذا النوع من الأمراض، أو ما بات يعرف بعلم الأورام.
من الصعوبة بمكان تصنيف الكتاب ضمن حقل معرفي معين، فهو ليس بكتاب طبّ بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس كتاباً أدبياً أو رواية، وليس من باب الثقافة العامة فقط، وإن كان يجمع بين هذه الصنوف المختلفة بصورة أو بأخرى، ومن هنا تأتي أهمية وقيمة هذا الكتاب؛ فلولا الثقافة العلمية والصنعة الأدبية المميزة لطبيب الأشعة التشخيصية، ومدير مركز الحسين للسرطان، لما تمكّن من تقديم مثل هذا الجهد الهائل والمدهش، في تتّبع التاريخ البعيد لمرض السرطان (بالمناسبة من أطلق عليه هذا الاسم الطبيب اليوناني أبو قراط) من الحضارة اليونانية إلى الرومانية مروراً بالإسلامية والجهد الهائلة لكل من الزهراوي وابن سينا والرازي وابن زهر، ثم العصور الحديثة، بالتزاوج مع سردية قصصية وتاريخية جميلة لهذا التطوّر التاريخي على صعيد التعامل مع المرض نفسه أو علاجه، عبر ما يسميه ميشيل فوكو «جينولوجيا المفهوم».
لم يكتف منصور بهذا العرض التاريخي المعمّق الجميل، بل أقحمنا في النقاشات والحوارات العلمية والحكايات المرتبطة بعلاج السرطان، مع تطبيقات واقعية على العديد من الحالات الأردنية، ومع استحضار قصة تطوّر مستشفى الحسين للسرطان والمراحل التي مرّ بها على الصعيد الإداري والمؤسسي والعلاجي أيضاً، حتى أصبح أحد أهم المستشفيات المتخصصة في هذا المجال بالمنطقة العربية عموماً.
يشرح المؤلف (في كتابة الذي يكاد يقترب من 700 صفحة) الجوانب المتعلّقة بالسرطان من مختلف الجوانب؛ ما يتعلّق بالتشخيص والتشخيص المبكّر وأنواع العلاج وتطورها، مروراً بالروبوت، الذي تمّ استدخاله في مركز الحسين، وصولاً إلى وسائل الوقاية وتجنب المرض ومسبّباته المكتسبة؛ منها ما يتعلّق بالقضية الكبيرة؛ التبغ، النرجيلة ومنها ما يتعلق بالسمنة وبعض أنواع الطعام، ثم يتطرق إلى الجانب السيكولوجي ومعركة الوعي عبر حكايات ونماذج واقعية متنوعة، والذكاء الاصطناعي والتحديات التي يفرضها صحياً واقتصادياً وإنسانياً على صعيد العالم العربي!
بعد أن تنهي الكتاب وتأخذ نفساً عميقاً من رحلة طويلة ذات فصول عديدة؛ ستشعر أنّك أصبحت أكثر إدراكاً ومعرفة بهذا العدو المراوغ الخطير، تلك الخلايا القاتلة في جسد الإنسان، وقد أزلت السحر عنها وصرت أكثر فهماً لماهيتها وطبيعتها وأنواعها المختلفة، وبالتالي أكثر فهماً لطبيعة المواجهة التي يخوضها ملايين البشر سنوياً مع هذا النوع من التحدّي، الذي يقلب حياتهم رأساً على عقب بمجرد اكتشافه وبدء رحلة التعامل معه، بما تتضمنه من مشاعر وهواجس وحالة نفسية وذهنية.
هذا الكتاب يمثّل حقّاً إضافة مهمة ونوعية للمكتبة الأردنية والعربية والعالمية، لما يقدّمه من طرح فريد غير مألوف بعيداً عن اللغة الطبية الجافّة، فهو يؤنسن التعامل مع المشكلة الكبيرة، ويضعها في سياقاتها المتعددة والمختلفة، ويمثّل بحدّ ذاته كتاباً توعوياً تنويرياً من الضروري أن يتم الاهتمام به وأخذه على صعيد صياغة السياسات العامة، سواء ما يتعلّق بالتربية والتعليم أو الصحّة العامة، ويصلح أن يكون مدخلاً رئيسياً لفهم التعامل مع هذه الآفة الكبيرة التي لا تتوقف آثارها عند الجانب الإنساني الحزين، بل حتى على صعيد الاقتصاد الوطني وكلفته الكبيرة على الدولة والمجتمع.