منذ بداية الثورات العربية والاعتصامات في الميادين، وتغيّر الأنظمة السياسية، ظهرت موجة عارمة مما يمكن تسميته بالفن الموجّه، فشاهدنا عديد من المسلسلات والأفلام ذات الصبغة السياسية أحادية الاتجاه، وحيث إن العنف قد استشرى في المجتمعات العربية، وبرزت ظواهر اجتماعية غير معهودة مثل الطوائفية والمذهبية والبلطجة والتجييش الإلكتروني والتحشيد السيبراني، ومع كمية العنف والكراهية الشائعة، كان التوجّه في الفنون التلفزيونية والسينمائية عبر الإعلاء من كثيرٍ من التفاهة والرداءة والكلام الهراء، مسلسلات تكتظ بالميوعة والمشاهد غير الأخلاقية المشبعة بالجنس والانحراف الأخلاقي، لا بل زاد الأمر تعقيداً عندما تم تناول العلاقات المحرّمة والغريبة والشاذة وكأنها هي العلاقات السائدة في المجتمع، كما أنها تضمنت كمية هائلة من الفجور والإنحلال الأخلاقي، مع التركيز على علاقات عائلية مفككة، فلا وازع دينيا ولا قانونيا ولا مجتمعيا، والغلبة للأقوى حتى بين الإبن وأبيه، البنت وأمها، الأخ وأخته، أما كمية حوشية الألفاظ الشوارعية، فهي التي أصبحت دارجة ومألوفة ويمكن سماعها بلا أدنى حياء في المسلسلات، وكأنهم مجرد زعران في حارة نسيها الزمان.
هناك كم من المسلسلات التي اصطبغت باللون الأحمر لكثرة القتل والتدمير والخراب والعنف فيها، حتى وصل الحال إلى نوع من الإدمان لمثل تلك المشاهد وأنها تعبّر عن واقع يتم تجسيده فنياً.
لقد تم اختزال الفن في هدفين لا ثالث لهما: الأول إشاعة الإنحلال الأخلاقي والتفكك الأسري والعلالقات المحرّمة مع تغليف كل ذلك بكمية من الألفاظ والتعابير السوقية السيئة. أما الثاني فيتمثل بالاعتياد على مقاطع سفك الدماء والقتل والاغتصاب والعنف والتخريب والتدمير، وكأن هذا هو قدر المجتمع، وأن الفن يقوم بنقل الواقع المزري إلى الشاشة الفضية.
نعم كان الفن يعتبر رسالة ويخدم قضايا الوطن العامة، ويقدم وجبات فنية أنيقة وراقية ترتقي بذوق المتلقي المشاهد وغير مسفّة، وكان الفنان ينخرط في أعماله الفنية، ولا يحمل غير صورةٍ واحدةٍ تعبّر عنه كفنان دون أن تستمع بشكل علني عن موقف أو رأي سياسي معارض أو مؤيد. هناك الكثير من الفنانين الذين نالوا شهرةً كبيرة، لم نسمع منهم طيلة حياتهم رأياً سياسياً، وهذا ليس عن عجزٍ أو قلة حيلة، لكن احتراماً للفن ومتابعيه الذين قد يتباينون على طول خط الآراء السياسية ما بين مؤيد متطرّف في تأييده، إلى معارض متطرّف في معارضته، لكنهم يلتقون على محبة الفنان. لقد بهتت صورة فنانين أقحموا أنفسهم في السياسة وحبائلها، ربما منهم من كان مجبوراً على ذلك من نظامه السياسي، لكنه خسر كثيراً من رصيده الفني ومن جماهير المتابعين لأعماله. تماماً كما هو حال الجوّالة اليوتيوبرز والمؤثرين السيبرانيين، الذين جلّهم لا يفقهون شيئاً في السياسة والفكر والأدب والثقافة، لكنهم اشتهروا عبر السوشيال ميديا في ممارسة محددة، منهم الرحّالة الذين يتجولون في دول العالم ويقومون بعمل فيديوهات ليشاهدها المتابعين بعين ذلك الرحالة، هؤلاء أيضا لا يصلح أن يتم إقحامهم في دهاليز السياسة وإبداء الآراء المعبّرة عن موقف سياسي محدد سواء تأييداً أم معارضةً، فالمتابعين ليسوا على قلب رجلٍ واحد، وهم يلتقوا على رغبة مشاهدة معينة لهذا المؤثر لا غير.
ما أود قوله أن الفنانين أو المؤثرين، عندما يتم تورطهم وتبنيهم لآراء سياسية ما، فهم يلوثون الفن ويتلوثون بالسياسة، ويبهت حضورهم ويتدنى ألقهم، ويصبحون بين سندان السياسة ومطرقة المتابعين.
لقد شاهدنا كيف انتهى الأمر بالفنانين إلى أن يصبحوا خارج المشهد دون أن يجدوا أحداً يطرق عليهم الباب في عمل فني، وهذا يعود لما تبناه أو صرّح به الفنان من رأي سياسي.
لا أطلب من الفنان عدم تكوين رأي سياسي خاص به، لكن عليه أن يحتفظ به لنفسه، أو يضحّي بسمعته وشهرته الفنية.
إن الفن يظل رسالة سامية عندما لا يقحم في تفاصيل السياسة المتغيّرة بطبيعتها تبعاً لتغيّر مواقف النظام السياسي، فقد يتم نسيان أي موقف للنظام السياسي، لكن لا يمكن نسيان أي موقف اتخذه فنان. هناك مكان ومكانة خاصة يتبوأها الفنان، فينظر إليه المشاهدين باعتباره ذو مكانة رفيعة وليست وضيعة أو رقيعة، مكانة على الفنان المحافظة عليها وأن ينتبه لما يصدر عنه من تصريحات أو أعمال تحتمل صفات جدالية لا طائل منها.