تدعو شخصيات سياسية أردنية وازنة إلى تبني سياسة النأي بالنفس عن الصراع الفلسطيني الصهيوني. وفي الوقت الذي يؤيدون فيه دعم الشعب الفلسطيني والدفاع الدبلوماسي عن الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، فإنهم يدعون إلى تجنب المواجهة المباشرة والعدائية مع إسرائيل، ومن ورائها أميركا.
هم في موقفهم هذا لا ينطلقون من التخلي عن القضية الفلسطينية، بل من تقييم محدودية الموارد الأردنية، ومن واقع وجود معاهدة السلام مع إسرائيل، وإدراكهم أن الأردن لا يملك القدرة على مواجهة التحالف الإسرائيلي الأميركي، خاصة في ظل اعتماده على الدعم الأميركي. لذلك، يرون أن سياسة النأي بالنفس ستمنح الأردن مساحة سياسية وبراغماتية للاستقرار والمناورة، لحماية نفسه وشعبه وحدوده، مما يتيح له التركيز على تحدياته الداخلية، سواء الحدودية أو الاقتصادية.
هذا الموقف «الوطني»، بمبرراته ودوافعه، ينتمي إلى مرحلة التسعينيات، وهي مرحلة توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل. واليوم، نحن في «المستقبل» من زمن توقيع تلك المعاهدة، الذي لم يكن واضحًا حينها، وقد تبين لنا -وحتى قبل عملية «طوفان الأقصى»- أن إسرائيل لا تعتبر السلام مع الأردن خيارًا استراتيجيًا، حيث أصبح الجهر باستهداف الأردن كحل لمسألة الديموغرافيا الفلسطينية عبر التهجير، موقفًا معلنًا لدولة متطرفة، بعدما كان موقفًا مقتصرًا على شخصيات صهيونية متشددة ولكن عابرة.
«المستقبل» من مرحلة الاتفاقية يخبرنا أن عملية السلام مع الأردن ومصر لم تكن، من جانب إسرائيل، سوى تكتيك مرحلي فرضته لحظة تاريخية معينة، استخدمته إسرائيل لاستكمال مشروعها القائم على عقيدتها الدينية والسياسية، والتي تؤكد أنه لا دولة فلسطينية بين البحر والنهر. وحيث كنا نقول منذ مرحلة الاتفاقية: «الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين»، كانت إسرائيل تخطط وتنفذ استراتيجيتها التي تقوم على مقولة: «الضفة لإسرائيل، والأردن للفلسطينيين».هذا ليس قولًا مرسلًا، بل سياسة تُنفَّذ على أرض الواقع.
الضفة الغربية -المجال الجغرافي للدولة الفلسطينية المرتقبة- تتحول إلى امتداد متصل لدولة إسرائيل، حيث يعيش فيها الآن حوالي نصف مليون مستوطن متشبث بـ»استيطانيته»، إضافة إلى نحو ربع مليون مستوطن في القدس الشرقية، التي أعلنت «عاصمة إسرائيل الأبدية»، ونقلت إليها أميركا سفارتها. الضفة الآن محتلة فعليًا، والسياسات الإسرائيلية على الأرض، والظروف المعيشية، تدفعان الفلسطينيين نحو خيار الرحيل.
فكرة أن «طول الحدود الأردنية الإسرائيلية» ستضمن عدم التعدي على الأردن، قد تجاوزها الواقع، فإسرائيل تعتمد على تفوقها العسكري الجوي والبري، وتفوقها التكنولوجي الذي ألغى مفهوم المسافات والعمليات التقليدية. لنتذكر أن إسرائيل، خلال عملية «طوفان الأقصى» - وبدعم من حلف الناتو- فتحت ست جبهات قتال في آنٍ واحد، إحداها كانت مع إيران، وبهذا قد تكون الحقيقة المرة أن طول هذه الجبهة بات يشكل مصدر خطر، وليس مصدر أمان لعدم التعدي على الأردن!
الرهان على احترام إسرائيل للمعاهدات وهم. وهذا ليس خطابًا شعبويًا، بل واقع عملي. إسرائيل، ومن خلفها أميركا، دولة «غاشمة»، تبيع حلفاءها عند أول منعطف براغماتي، أميركا لا تحمي الدول، بل تحمي مصالحها فيها، وإن تغيرت المصالح، تغيرت الحماية، وأوكرانيا مثال على ذلك، أما بالنسبة لإسرائيل، فالمعاهدات ليست سوى تكتيك مرحلي، تستخدمه لكسب الوقت وتحقيق الهيمنة والاستيطان!
الحصافة السياسية ضرورية ومطلوبة، فهي تعني استشراف المخاطر والاستعداد لها. لكن تأجيل المواجهة وعدم استيعاب التغيرات الجوهرية في الواقع قد يتركاننا أمام خيارات محدودة تهددنا. النهج المتبع في سورية هو مثال على ذلك، حيث تُستخدم سياسات تقسيم المجال الجغرافي، وتأجيج النزاعات العرقية والطائفية، كأدوات لخلق التشظي. يجب علينا أن نستعد للأسوأ، وأن نقرأ الواقع بموضوعية وعلمية، ونبني خطة استراتيجية للمواجهة، خطة لا تستعدي أحدًا، لكنها تستعد لكل الأعداء، كل الأعداء!