بعد سنوات طويلة من الصراع والمعاناة، وبعد أن خاض الشعب السوري أشرس المعارك دفاعًا عن حريته وكرامته، فرضت الأحداث واقعًا جديدًا لا يمكن إنكاره أو القفز فوقه.
اليوم، بعد سقوط النظام الذي حكم البلاد لعقود بالقمع والاستبداد، وبعد أن فشلت كل المحاولات الخارجية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء،
يقف السوريون أمام خيار مصيري: إما الاستمرار في الحرب حتى الفناء، أو القبول بالواقع الجديد والعمل على تحسينه.
هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها أثبتت أنها قوة لا تُهزم، ليس فقط بالسلاح والقتال، بل بالعقيدة والإرادة. فقد واجهت أعتى الجيوش، وتحدّت الميليشيات الطائفية القادمة من وراء الحدود، وصمدت أمام التدخلات الإقليمية والدولية، لأنها تمثل فكرة متجذرة في وجدان من حملوا السلاح دفاعًا عن أنفسهم ضد نظام لم يعرف سوى القمع والقتل والتدمير.
الشعب السوري، الذي عانى من السجون والمجازر والكيماوي والبراميل المتفجرة، لا يمكن أن يعود إلى حكمٍ طائفيٍّ أقلويٍّ جلب الاحتلالات وجيّش الميليشيات العابرة للحدود.
لقد دفع السوريون الثمن غاليًا، بملايين الضحايا والمشردين، ولا يمكن لمن قدّم هذا الحجم من التضحيات أن يقبل بالعودة إلى المربع الأول.
هذا هو واقع لا يمكن تغييره، وهو ما تدركه جميع القوى الإقليمية والدولية، حتى وإن لم تعترف به علنًا.
لكن في المقابل، يجب أن يكون الجميع على وعيٍ بأن الحرب لا يمكن أن تستمر إلى الأبد،
وأن المصالحة الوطنية ليست خيانة، بل ضرورة يفرضها المنطق والعقل.
الرئيس أحمد الشرع أبدى انفتاحًا ومرونة، وأظهر رغبة في تحقيق استقرار يمكن للجميع أن يشارك فيه.
الأقليات التي تخشى على مستقبلها عليها أن تدرك أن الحل ليس في المواجهة والاستنزاف، بل في التعايش والتكيف مع الواقع الجديد، لأن المعادلة واضحة: الاستمرار في الصراع سيؤدي إلى خسائر لا يمكن تحملها، والتاريخ يؤكد أن من يرفض التكيف مع موازين القوى الجديدة، ينتهي به المطاف في مهبّ الريح.
لكن هذا الاستقرار لا يمكن أن يتحقق دون العدالة والمحاسبة.
على الجميع أن يقبل بمبدأ المحاسبة لكل من ارتكب الجرائم، بغض النظر عن انتمائه أو خلفيته. فلا يجوز أن يصبح المجرمون عقبة أمام مستقبل البلاد، ولا أن يُسمح لهم بالتمترس خلف جماعاتهم الطائفية أو العرقية للإفلات من العقاب. يجب على كل طائفة أو مجموعة أن تتخلى عن مجرميها، وأن تساعد الدولة في تقديمهم للعدالة، بدلًا من حمايتهم وجلب المزيد من الكوارث على أنفسهم وعلى غيرهم.
العدالة ليست انتقامًا، بل أساس الدولة المستقرة، وهي وحدها التي تضمن عدم تكرار الماضي الأليم. لذلك، فإن الخيار الحكيم اليوم هو العمل على تحسين الأوضاع تحت الحكم الجديد، والمساهمة في بناء سوريا مستقرة، بدلًا من الرهان على معارك خاسرة لن تؤدي إلا إلى مزيد من الدمار. سوريا اليوم لم تعد كما كانت، ومن يعتقد أن الماضي يمكن أن يعود فهو واهم.
الحكمة والعقل يفرضان القبول بالواقع الجديد، والعمل ضمنه، مع الالتزام بتحقيق العدالة، حتى تستعيد البلاد توازنها، وينعم الجميع بالأمان.
-----
عبدالناصر عليوي العبيدي